ليل في غزة

16 اغسطس 2018
+ الخط -
لا نعاس وسط هذه اليقظة على جبهة الحرب، لا تبدو مدافع إسرائيل وطائراتها مستعدة للسهو قليلاً، منذ أن انتصبت على حدود غزة، متأهبةً متيقظةً لكل بادرة حياة في هذه المدينة التي تعاند الموت أكثر مما عاندته أي مدينة أخرى، خلال الخمسين دقيقةً الأخيرة.

وفي تعبير واضح عن اليقظة المتوحشة، شنت الطائرات حربها المعتادة على غزة، خلال الخمسين دقيقةً الأخيرة، وفي قلق موحش على مصيري ومصائر البنايات المجاورة وقاطنيها، أترقب نشرة الأخبار المباشرة التي تقدمها طائرة (اف 16) الحربية.

أبدل مكاني؛ أبدل أمكنة الأشياء في الغرفة وعقلي، والحرب هي الحرب؛ طائرةٌ لا يعجبها وقوف بناية قديمة بعناد واضح، مدفعٌ يغيظه ستارةٌ بنيةٌ في غرفةٍ مضاءة، والحرب هي الحرب؛ صواريخٌ ذكيةٌ تتوحش ببلاهة على رغبة الحياة لدى الناس هنا.

والناس هنا؛ يعاندون الموت، بالقدر الذي يُسمح لهم فيه بالحياة، وبقدر هامش إرادةٍ تمنحه سلطات مصر لجيش المغادرين والعائدين لغزة، وبقدر ما يشفع الحديث عن الهدنة كذب الأمهات المتكرر على صغارهن بأن الحرب لن تقع مرة أخرى.


والناس هنا؛ كالناس في كل العالم، يحلمون، ويتنفسون، ويشكون حرارة آب المرتفعة، ويستاؤون من تردي الأوضاع الاقتصادية، ويتابعون بشغفٍ واسع كرة القدم، مثلما يتابعون بمرارةٍ تهديدات وزارة الدفاع الإسرائيلية لمدينتهم، ويؤرقهم الانتقال السريع من الهدوء للحرب بغضون ساعات.

أبدل مكاني مئة مرة، الساعات تمر ببطء مريع، لو لم تشرع الطائرات الحربية رحلتها في أجواء غزة، لما كان الوقت يحتاج كل هذا الوقت ليمر.

الأمور أسهل وأبسط خارج توقيت الحرب؛ نلهو قليلاً في شوارع خان يونس، نزور زرقة البحر، نحسدها على حريتها متناسين أنها أيضاً، رهينةٌ للحصار وإسرائيل؛ بالأمس فقط اعتقِل صيادٌ من على متن قاربه، وقبل الأمس، أُطلق الرصاص على مجموعةٍ من الصيادين، وغداً، ستقود زوارق تحمل أعلام إسرائيل مركباً يفكر بالتملص من الحصار إلى ميناء "أسدود" الذي تحول تباعاً لمعتقلٍ مؤقتٍ للسفن التي تسعى جاهدةً لكسر لفظة الحصار.

نبعث بانظارنا وكأنها رسائلٌ إلى الشفق المترامي على البحر، ولا نأمل أن تعود، حتى خيالاتنا تخضع لمنطق الاحتجاز القسري، ونكمل دائرة الوقت قبل أن تغادرنا الكهرباء، نقفل على قلوبنا وننام.

الليل يختلف في الحرب؛ النوم خيانةٌ في هذه الحالة، من يدري؟ قد يكون القصف أقرب لنا من وسائدنا، قد لا يجد الطفل الوقت الكافي لتقبيل والدته، وقد لا تجد الأم دقيقتين إضافيتين كي تضيء طمأنينةً ما في جو البيت، وقد تسرق غارة جوية رجلاً لم يُتح له الوقت للعودة إلى منزله.

في ليالي الحرب الطويلة، يصحو أفراد العائلة، باستثناء الشهداء طبعاً؛ فحضورهم الذي لم يبهت لدقيقةٍ واحدةٍ لا نزعجه بشيءٍ تافهٍ كالحرب.

صورهم تراقب قلقنا، وقلقنا يتوزع بصورةٍ فطريةٍ على كل ما في البيت قبل أن ينتقل من بيت لآخر ليعم أرجاء غزة.

أتأمل من النافذة؛ الساعة تقترب من الثالثة صباحاً، منذ الحرب الأخيرة لم يحدث أن طالت جولة التصعيد بهذا الشكل، اتجاذب حديثاً ساخراً مع جارٍ يطل من نافذته أيضاً، يسألني إذا ما كان هناك جو انتخابي في إسرائيل يستدعي هذا التصعيد، فالتنافس في إسرائيل يكون على الدم الفلسطيني، وصناديق الاقتراع تعبئها المؤسسة العسكرية، بأرقام القتلى الفلسطينيين؛ لا يا جاري العزيز، إسرائيل ليست بحاجة إلى ذرائع لتشن حروبها على هذه المدينة التي تتذرع بها لتتوحش أكثر.

ذنبنا يا عزيزي أننا فلسطينيون حتى الرمق الأخير، وذنب غزة أنها الوصي الشرعي على حلمنا الفلسطيني المفقود، سنحلم كثيراً يا عزيزي ببرتقال يافا وعصافير الجليل، ولكن قبل ذلك علينا أن نصغي لخوف أطفالنا من ليل الغارات والطائرات، أقفل النافذة على الحديث الذي تشاركت به مع الجار اللطيف ونفسي المضطربة، وأجدني أمام أسئلتي وأسئلة غزة الشاخصة أمامي؟ متى تتوقف الحرب؟ متى نتنفس هواء لا تغربله إسرائيل قبل أن تسمح له بالدخول؟ متى يمكن أن نحكي أننا فلسطينيون دون أن نتوقع شظية اغتيال أو رصاص كاتم صمت.

*نص متخيل من عمّان
C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.