ليعد الإرهاب خائباً من باردو
لماذا يصر البغدادي، باعتباره الممثل الأسمى للإرهاب، على سفح الدماء في قلب تونس في لحظة تتشاور فيها مكونات البلاد بشأن مشروع قانون جديد للإرهاب، يروم محاربة امتدادات البغدادي نفسه؟ هل من مصلحة الظواهري أن يقتل طاقم "شارلي إيبدو" في باريس بدم بارد وهمجية، ويؤلب الناس على الإسلام والمسلمين، وهو الزاعم أنه يبغي نشره؟ هل يحتاج البغدادي إلى رؤية قوانين وإجراءات ترى النور تُوسع معنى الإرهاب، وتطلق يد البوليس السري والعلني في الناس، المشتبه فيهم، بعد أن يصير الاشتباه مفهوماً فلسفياً، لا يحدده إلا الراسخون في ما لا أعلم؟ لماذا تأتي الضربات الإرهابية الغادرة متزامنة مع مشاريع قوانين حول الإرهاب، أو إجراءات أمنية، تثير مخاوف حقوقية، وتتضمن بنوداً فضفاضة؟ أو مع صعود حركات اجتماعية مناهضة لسياسة من سياسات الاستبداد، أو مع تلاشي صدى أخرى تغذي رهاب الإسلام والخطابات العنصرية؟
الجواب المتداول إعلامياً أن الأمر محض مصادفة، وأي حديث غيره ترويج لنظرية المؤامرة، وحاصل الأمر أن البغدادي زعيم تنظيم إرهابي، يعلن تكفيره الأمة الإسلامية وشعوبها وعداءه للغرب وشعوبه، ولا شك أنه سيضرب أينما استطاع، ليرهب الناس، والتزامن إن وقع، فصدفة وكفى، فلا تسأل ولا تستشكل، ولا تربط بين الأحداث، ولا تحاول أن تفهم ما لا يفهم، ولا تتفلسف وتتعالم في الأمر، وأي حديث، بعد ذلك، يعتبر تشكيكاً في نظرية المصادفة، البديل الرسمي والمعتمد لنظرية المؤامرة، والتي ستصير قريباً من المقدسات والخطوط الحمراء العربية والعالمية.
لكن، ماذا لو خرجنا من ثنائية النظريتين الضدين، واستشكلنا واقعنا الكوني والعربي، بقدر من الحكمة والإنصاف، فعندما يرى المرء التكنولوجيا العسكرية الدقيقة والمتطورة التي تمتلكها الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وحلف شمال الأطلسي - الناتو (ويضم 28 جيشاً احترافياً)، وروسيا، والصين، ويرى سباق التسلح الحامي الوطيس بين الأنظمة، خصوصاً بين الأنظمة العربية، والمقاتلات التي تحوزها هذه الأنظمة كل سنة، والميزانيات الضخمة المرصودة للتسلح، والتفاخر والزينة والاستعراضات العسكرية براً وبحراً وجواً والتدريبات المشتركة، وإرسال الفيالق إلى البعثات الأممية في مناطق النزاع، ثم تأتي هذه الخبرة العسكرية العالمية والعربية، بكل قوتها وبأسها وشدتها وتاريخها وتكنولوجيتها، لتتكسر على صخرة البغدادي، حينها لا مناص من الريبة والشك في حقيقة أسطورة البغدادي.
لا شيء يمنع أن يكون البغدادي، هذا البعبع الذي يخوّف الشعوب من نسائم الحرية ووجوه الحركة الإسلامية، يخدم مصالح أطراف متنحية، منها من يمده بالسيارات الفارهة والمصفحة والسيولة بالدولار، ومنها من يبيعه الأسلحة والعتاد، ومنها من يلقح عقيدة مقاتليه بما يجعلها صماء طيعة، ومنها من يشتري منه النفط بأسعار تفضيلية، ومنها من يوعز له بخلق القلاقل والبلابل، ومنها من يغض الطرف عن بعض جرائمه لمصلحة يجنيها من ذلك. وكل طرف يتعامل مع التنظيم الإرهابي، حسب موقفه منه كما سلف، إما باعتباره ذراعاً أو صنيعة أو عدوَ عدوِ أو ذخراً أو فرصة لمصلحة. وبقدر ما توظفه هذه الجهات، فالتنظيم يوظفها إذ يحتاج إلى بناء شبكة مصالح والتحالف مع أجهزة وفتح ممرات وقنوات اتصال مع أخرى ليتكاثر ويتناسل ويحقق أهدافه.
والمهم، والفهم هذا، هو إجهاض تلك الأهداف والمطامح التي يحملها التنظيم، أياً كان من يقف وراءه، وهو ما لم يمكن أن يتحقق من دون تشكيل وعي سياسي جديد، يقطع مع الاستغلال الدنيء لانعكاسات العمليات الإرهابية، متاجراً بجراح الأمة والأفراد، ومتلاعباً بمشاعر الجماهير. المطلوب هو حرمان الإرهاب من تحقيق مكاسب استراتيجية بجر الدولة إلى مستنقع القمع، وانتهاك حقوق الناس وملاحقة ناشطي الحركات الإسلامية، وبالتالي مد الإرهاب بقوافل جديدة من الناقمين والحاقدين على الأنظمة. إذ لا يستقيم عقلاً أن تتم مكافحة الإرهاب بقوانين لا تقل رعباً وترهيباً.
ولا يمكن بأي حال السماح بأن تتم مكافحة الإرهاب على حساب حقوق الإنسان وحرية التعبير والحق في التظاهر السلمي والحق في تأسيس جمعيات ومنظمات مدنية، والحق في تنظيم ندوات فكرية ونقاشات، والحق في الإعلام الحر، والحق في الوصول إلى المعلومة، والحق في الحياة والكرامة الإنسانية، والحق في الإبداع، والحق في النقد والحق المعارضة، والحق في الاختلاف والتعبد ومناهضة أسباب التردي القيمي والاستلاب الثقافي.
في 7 يونيو/حزيران الماضي، خرجت منظمة هيومن رايتس ووتش بتقرير تحلل فيه مشروع قانون مكافحة الإرهاب في تونس، الذي تجري دراسته حالياً، وتتوقع المصادقة عليه قريباً بعد أحداث باردو الأليمة، أثار مخاوف حقوقية، منها أن "مشروع القانون أبقى على تعريف فضفاض وغامض لما يُعتبر نشاطًا إرهابيًا، وهو ما قد يسمح للحكومة بقمع حريات عديدة مكفولة دوليًا". وتضمّن المشروع، حسب المنظمة الحقوقية، "أعمالاً تُعتبر جرائم إرهابية"، مثل "الإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة"، أو "بوسائل النقل أو الاتصالات أو بالمنظومات المعلوماتية أو المرافق العمومية" التي قد ينجر عنها تجريم المعارضة السياسية، أو حتى أعمال العنف الصغرى التي تحدث في أثناء الاحتجاجات الاجتماعية.
تقترب تونس من المصادقة على مشروع القانون المذكور، والحركة الحقوقية والسياسية والمدنية في تونس على أتم الوعي بأهمية جعله قانوناً متقدماً من ناحية الضمانات الحقوقية، وبلاد قرطاج، مطالبة في هذا الظرف العصيب، بأن تتمسك بوحدتها ومبادئ ثورتها المباركة، التي تظل أنصع الثورات وأقربها إلى التخلص من قانون الطفو السياسي، الذي يعني كما أحسن تعريفه كاتب الرأي محمود صقر، في مقال في "العربي الجديد"، "حماية الدول المتخلفة من الغرق، ومنعها من الإبحار".