ليس النظام وحده من يريد "تغيير الشعب"

24 مايو 2014

أدونيس في فرانكفورت (أكتوبر 2004 أ.ف.ب)

+ الخط -


منذ الخامس عشر من آذار/مارس 2011 خرجت طلائع الشعب السوري مطالبة بإصلاحات، فأمطرها النظام، منذ الساعة الأولى، بوابل من الرصاص. ولمّا تنقلت الانتفاضة السلمية من مدينة إلى أخرى، توسع النظام في استهدافه الشعب، وتصرف معه على أنه العدو الأول والأكبر، وإلى الشرطة وأجهزة الأمن والشبيحة (منحهم في ما بعد اسماً فخيماً: "قوات الدفاع الوطني")، فقد تم زج الجيش في الحرب على العدو "الداخلي"، وبدأ استخدام الأسلحة الثقيلة بمختلف صنوفها وبكثافة، وتم دفع الانتفاضة السلمية دفعا للعسكرة.
التطورات اللاحقة يحفل بها الأرشيف كما تنطق بها الوقائع، ومن جملة هذه الوقائع مقتل نحو 15 ألف طفل، بما يجعل هذا النظام هو الوحيد في التاريخ، وفي العالم، المتخصص بقتل أطفال شعبه. وتم هدم زهاء ألف مسجد. تدمير منهجي لمدن حمص وحماة وحلب، تشريد أربعة ملايين سوري وسورية، وتحولهم لاجئين في دول الجوار، علاوة على ضعف هذا العدد ممن تسنى لهم النجاة بالسفر، هائمين على وجوههم إلى دول العالم. مقتل ما لا يقل عن 160 ألفاً بين مدني وعسكري، مئات ألوف الجرحى والمعتقلين، و"الحبل على الجرار".
نكبة شعب سورية تكاد تضاهي، في وحشيتها، نكبة شعب فلسطين. اللاجئون السوريون، وكل من سيتسنى لهم اللجوء، "غير معترف" بهم من النظام، كما هو حال اللاجئين الفلسطينيين في أنظار الاحتلال الإسرائيلي. لهذا، تم استبعادهم من لعب أي دور في مسرحية الانتخابات الرئاسية. وبينما ينبري محافظون غربيون ممالئون للدولة العبرية للقول إن الإرهاب يعشش في صفوف الشعب الفلسطيني اللاجئ، وإن المسؤولية تقع على هؤلاء في "أزمة الشرق الأوسط " المستدامة، فإن الشاعر السوري/ اللبناني أدونيس لا يكتم، من جهته، أن من عليه أن يتغير هو الشعب (المجتمع)، وأن تغيير النظام "مشكلة ثانوية". يريد أدونيس بذلك القول إن التغيير الثقافي متقدم على التغيير السياسي. وهو، في الحالة هذه، يفصل بين النظام والمجتمع. فالحالة الطائفية، على سبيل المثال، الواجبة التغيير، والتي ينوء بها المجتمع، لا يمكن القول إنها يمكن أن تصلح بمعزل عن وجود النظام، أو غيابه، وهي، تبعاً لشروحاته، أقرب إلى مرض اجتماعي/ ثقافي/ ضارب الجذور في التاريخ، على الرغم من أنها لم تبرز في سورية، بصورة صارخة، إلا على يد هذا النظام منذ أربعة عقود.
لو كانت النازية جوبهت بمثل هذا الطرح قبل ثمانية عقود، بالقول إن الشعب الألماني هو الذي يجب أن يتغير، لا جمهورية الرايخ، لبدا الأمر أشبه بمزحة ثقيلة.. وبينما ابتُلي الشعب بنظام ذي أداء نازي، ومحكوم بهذيان إنشاء سورية كبرى بسماركية على أنقاض الشعوب، وأولها الشعب السوري، فإن أدونيس لا يتوانى عن الجهر بأن وجود النظام ليس مشكلة (بخاصة اذا ما تخلى حزب البعث عن قيادة الدولة والمجتمع، وقد تخلى النظام عن ذلك في "تعديلات دستورية") وأن المشكلة تكمن في الفصل بين الديني والسياسي، وضرب مثلاً على ذلك بالانقلابات التي وقعت في سورية ومصر والعراق والسودان، التي لم تغير شيئاً في واقع الحال منذ ستين عاما، جامعاً في ذلك بين موجة الربيع العربي، الشعبية المدنية، والانقلابات العسكرية في بوتقة واحدة.

من حق أدونيس، الشاعر والمفكر، أن ينظر للأمور بغير منظور السياسيين، أن يدعو إلى ثورة ثقافية جذرية. إلى تغيير شامل. من حقه، بل من واجبه، أن يتطيّر من الموجات الأصولية، ويحذر منها، سواء في بلاده أو في أية بقعة عربية أو غير عربية، لكن الرجل (وهو صديق قديم يعتز كاتب هذه السطور إنسانياً بصداقته)، لو كان أكثر أمانة ونزاهة، لجهر، ولو مرة واحدة، بأنه يدين نظام الطغيان البربري، ويرفض، في الوقت ذاته، أن يكون البديل له نظاماً استبدادياً أصولياً. لكنه يتشبث فقط بالطرف الثاني من المعادلة، بالدأب على معارضة جزء من المعارضة، من دون أن يعارض النظام في ممارساته التي تفوق الوصف. وفي هذا اللون من المعارضة يتوافق مع النظام على أن الشعب لا وجود له، وما هو موجود فقط هو حركات أصولية (على الرغم من أن العام الأول لاندلاع الانتفاضة لم يشهد ظهور تلك الحركات، والخشية أن أدونيس قد عكف على انتظارها، فيما عمل النظام على تهيئة أرضية خصبة لها، على الأقل، في الفوضى الدموية التي أشاعها، وفي إخلاء سبيل أصوليين، وتشديد النكير على مدنيين ليبراليين هم رفاق مفترضون لأدونيس).
عندما يُطبِق نظام شمولي على كل مفاصل الحياة، وحين يتربص الموت بكل مظاهر التفكير والاجتماع السياسي والفكري المستقل في أبسط مظاهره، فإن التغيير الثقافي يمُرّ حُكماً بمحاولة إصلاح النظام إصلاحاً شاملاً، كما كانت عليه وعود الانتفاضة في أشهرها الأولى، وعدا ذلك، فإن النظام يكون قد حمل معارضيه حملاً على تبنّي تغييرٍ شامل، لا يستثني النظام. وهذا ما حدث.
إن منهج لوم الضحايا، وغض النظر عن ارتكابات النظام العظمى في سلوك مسلك الإبادة المنظمة، وإن اللامبالاة المتفاقمة تجاه المحنة المتطاولة للشعب، أمور ينقصها، للأسف الشديد، الوازع الأخلاقي الكافي. ولا يحتاج المرء لأن يكون سياسياً أو مفكراً، سورياً أو عربياً، لكي يتخذ مواقف مبدئية، تناصر حق البشر في الحياة، وتدين نظاماً يتخذ من القتل الجماعي عقيدة سياسية، وأسلوب حياة.
في سياق رؤيته الثقافية، وإيمانه بالتعدد الثقافي، يتجاهل أدونيس هجرة المسيحيين السابقة على الانتفاضة واللاحقة لها، وكذلك استهداف المكون الاجتماعي المسلم الأكبر، وتدمير حواضره التاريخية (حمص، حماة، حلب) وتهجير أبنائه. يتجاهل تحالف النظام مع أصوليةٍ من خارج الحدود تجعل من الحرب على الانتفاضة "جهاداً مقدسا"، ولا يتجاهل المرء هنا بالطبع تدفق أصوليي القاعدة ومن لفّ لفّهم، الفرق أن هؤلاء الأخيرين تسللوا عبر الحدود من وراء ظهر الشعب وانتفاضته، أما الفئة الأولى فقد استقدمها النظام "العلماني"، وأطلق يدها في التنكيل بشعبه.
ما قيل على سبيل التندّر بأنه: في بلدان العالم كافة يمكن أن ينشُد الشعب تغيير النظام، باستثناء سورية، حيث يمنح النظام نفسه حق تغيير الشعب: إبادته وإعادة هندسته على الطريقة النازية، ويا لها من مفارقة أن يرفع أدونيس، وبخلفية أخرى، الشعار نفسه. أجل بخلفية أخرى، تبطن نياتٍ حسنة، لكنها في ظرف المحنة السورية، تخطئ الأولويات خطأ جسيماً، وتتعالى على الكارثة، وتخدم النظام إذ تتستر على فظائعه، وتقوّي شوكته على شعبه.