ليبيا ورهانات الحرب والسلم

11 يونيو 2020
+ الخط -
بعد التقدّم الكبير الذي حققته قوات حكومة الوفاق الوطني، وتمكنها من استعادة السيطرة على كامل الحدود الإدارية لمدينة طرابلس، وتقدمها باتجاه الشرق الليبي، يبدو أنّ رهانات الحرب التي كان يعوّل عليها الجنرال خليفة حفتر، والدول الداعمة له، كانت خاسرة، ليس عسكرياً فحسب، وإنما سياسياً أيضاً، فالانتصارات الكبيرة التي تمكّنت قوات حكومة الوفاق من تحقيقها أخيرا مقابل تقهقر سريع وكبير لقوات حفتر تقود إلى استنتاجات مهمة يمكن البناء عليها فيما يتعلق برهانات الحرب والسلم، في هذا البلد الغني بموارده النفطية، والذي يشهد صراعاً بين الراغبين في تحقيق السلام والاستقرار والساعين إلى الفوضى والدمار. 
أوّل هذه الاستنتاجات فاعلية الدور التركي في ليبيا، فمنذ توقيعها مذكرتي التفاهم الخاصتين بتحديد مجالات الصلاحية البحرية في البحر الأبيض المتوسط بين البلدين، وبالتعاون الأمني والعسكري، استطاعت تركيا فرض نفسها بقوة في المشهد الليبي، إلى درجة أن تدخلها العسكري هناك قلب موازين القوى العسكرية على الأرض، فبعد أن كانت قوات حكومة الوفاق محاصرة في مناطق ضيقة من العاصمة طرابلس، استطاعت تركيا من خلال وجودها العسكري الميداني والتسليحي فكّ الحصار عن طرابلس، واستعادة مدن وقواعد عسكرية ذات أهمية استراتيجية وطرد قوات خليفة حفتر منها باتجاه الشرق. وبالتالي حمل التحرّك التركي في ليبيا رهانات استراتيجية تعلّقت بمشاريع أنقرة الإقليمية، عكست حساباتٍ سياسية لمكانة ليبيا في الإدراك الاستراتيجي التركي، والتي هدفت، فيما هدفت، إلى تحويل دفّة التوازن مع القوى الإقليمية، وخصوصاً في منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، لصالح تركيا ودورها، وإبراز حقيقة جديدة أمام العالم تتعلق بالتأثير التركي والحقوق السيادية في منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، بالشكل الذي يتماشى مع طموح تركيا الأوسع في تطوير سياسة خارجية أكثر جرأةً وأكثر وضوحاً لتحقيق المكانة والنفوذ، باعتبارها قوة إقليمية طامحة لها امتداداتها.
ثاني الاستنتاجات التي يمكن التوقّف عندها انتكاسة المحور المساند والداعم للجنرال خليفة حفتر، 
وهو نفسه المحور المضاد لثورات الربيع العربي، فالهزائم الكبيرة التي تعرّضت لها قوات حفتر، وخسارته تمركزات استراتيجية مهمّة في الغرب الليبي، دفعت دول هذا المحور إلى محاولة إيجاد مخرج له، فكانت المبادرة السياسية التي طرحها رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السياسي، تحت مسمّى "إعلان القاهرة". ولطرحها في هذا الوقت دلالات عديدة ربما أهمها استشعار هذا المحور المساند والداعم لحفتر خطورة الوضع في ليبيا، بعد التقدّم الكبير الذي حققته حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا. ولذا جاءت أوّل ردود الأفعال المرحبة بالمبادرة المصرية من دول هذا المحور نفسه، كالسعودية والإمارات وروسيا، وهي الدول التي ظلت تدعم حفتر عسكرياً وسياسياً للسيطرة على العاصمة طرابلس، والقضاء على حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً.
وبالتالي، يمكن القول إنّ المبادرة المصرية ولدت ميتة، لمجموعة من الأسباب، أهمها أن طرحها تزامن مع الهزائم الكبرى التي تعرّضت لها قوات خليفة حفتر وانحسار سيطرة هذه القوات مقابل تقدّم واضح لقوات حكومة الوفاق الوطني واتساع سيطرتها. وبالتالي فإن مبادرة السيسي جاءت في المقام الأول لإنقاذ حفتر، ومنحه الوقت الكافي لترتيب قواته من جديد، فهو بالنسبة للنظام المصري شريك أمني - عسكري مضمون ومأمون الجانب في الشرق الليبي ذي الأهمية الكبرى لهذا النظام المصري. وتعد هذه المبادرة السياسية إعادة تدوير لمبادرة رئيس البرلمان في طبرق، عقيلة صالح، أخيرا، بغرض الإبقاء على الجنرال خليفة حفتر في المشهد السياسي والعسكري الليبي، على الرغم من احتراق ورقته، وظهور تحليلات وتسريبات أكدّت بدء بعض الدول الداعمة له كروسيا البحث عن شخصية بديلة تكون أكثر قبولاً في المجتمع الليبي – القبلي، مثل عقيلة صالح في الشرق الليبي، وذلك بعد الهزائم الكبرى التي تعرض لها الجنرال، وبدء تعالي الأصوات الرافضة له في الشرق الليبي، والرافضة خطواته التصعيدية التي كان جديدها إسقاطه 
الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات المغربية عام 2015، وتنصيب نفسه حاكماً للبلاد. وقد دعت صحيفة ليبراسيون الفرنسية الحكومة الفرنسية إلى التخلّي عن دعمه، بعد سلسلة هزائمه العسكرية التي توالت في وقت قصير على يد قوات حكومة الوفاق الوطني الشرعية والمعترف بها دولياً، ودعت أيضاً جميع حلفائه ومموليه إلى إعادة النظر في دعمه.
في المحصلة، يمكن القول إنّ انعكاس النصر الذي حققته قوات حكومة الوفاق الوطني يفرض استمرار زخم المعركة العسكرية والسياسية، بحيث لا تتوقف قبل القضاء على حفتر وقواته، فالحرب لم تنتهِ، ومؤكّد أنها ستستمر، ولكن مع إعادة الحسابات من جميع الأطراف المحلية والخارجية التي تسعى إلى تعزيز مواقعها ونفوذها في ليبيا، فرهانات الحرب باقية، طالما بقيت القوى الإقليمية والدولية تتصارع على نفوذها في ليبيا، في حين أن رهانات السلم ستكون لها الأولوية، في حال دفعت الأطراف الخارجية الفرق الداعمة لها داخلياً إلى طاولة الحوار والمفاوضات، وخصوصاً بعد هزيمة قوات حفتر في الغرب، والتي قد تكون مقدّمة من أجل التوصّل إلى تسوية سياسية.