لو كوربوزيه.. حين ترك الشرق يتبدى أمام ناظريه

17 يونيو 2020
لو كوربوزيه في محترفه، باريس 1960 (فولفغانغ كون، Getty)
+ الخط -

بدءاً من القرن السابع عشر، أنشأ الاستكشافُ الغربي المنتظم للأراضي الواقعة إلى الشرق من أوروبا الشرقَ تدريجياً بوصفه موضوعاً يجري تمثيله، برواياتٍ عن رحلات ولوحات وخطاطات. ويحتاج هذا الاستكشاف إلى أن ننظر إليه نظرتنا إلى جزءٍ من حدثٍ أكبر رسّخ التمثيلَ كأداة إنشاء رئيسية في الثقافة الغربية.

في هذا السياق جرى تحويل الشرق إلى موضوع شكل من أشكال الخطاب كما أظهر إدوارد سعيد في دراسته الفذة للاستشراق (1978)، وإلى صورة نمطية صالحة للاستهلاك، وإلى وصفة أسلوبية في المعمار.

ووسط الأطروحات النقدية المتكاثرة في مختلف اللغات لإنشاءاتِ المستشرقين، تبرز أطروحة المختصة التركية بالتاريخ المعماري، سيبل بوزدن، التي لفتت الانتباه إلى طريقة بديلة في النظر إلى الشرق مختلفة عن الطريقة محل النقد الشائعة في أوساط الاستشراق التقليدي.

فعلى النقيض من هذه الطريقة الأخيرة التي حوّلت الشرقَ إلى واقع متجمّدٍ في الزمن مستقلٍ لا يأتيه التغيير، لا من بين يديهِ ولا من خلفهِ، تلقي الضوءَ على طريقة نظر غربيّة أيضاً ولكن مختلفة، تدخل في عالم الشرق وتنخرط فيه، وتستخدم التمثيلَ كأداةِ استكشاف نقدية بدل أن يكون أداة إيضاح وتقرير.

تمثّل طريقة النظر هذه ما قدّمه المعماري الفرنسي السويسري لو كوربوزيه (1887-1965) في كتابه المعنون "رحلة الشرق" من خطاطاتٍ تجريبية وملحوظاتٍ حملت شيئاً من التبصّر متضمناتُه بالغة الأهمية والدلالة بالنسبة للثقافة المعمارية الراهنة على نطاق واسع.

تبدأ الخبيرة التركية أطروحتها باتخاذها كلمة "رحلة" أو "سفر" استعارة تعبّر عن اكتساب المعرفة وفتح عوالم ورؤى جديدة. وكانت هذه هي المسألة بالنسبة للقرنين السابع عشر والثامن عشر، وهي فترة هيمن عليها الرحالة وعناوين كتب مثل "رحلة في شرقي البحر المتوسط" (1636) لهنري بلنت، أو "الرحلات الست" (1677) لجان باتيست المنشور بالفرنسية والإنكليزية، أو حتى "رحلة جديدة إلى شرقي المتوسط" (1696) لجان دو مون في طبعة ثانية.

وعلى خطى هذا التراث ذي التاريخ الطويل للرحالة الغربيين في الشرق، تتناول الباحثة التركية الرحلة اللاحقة الأحدث غير المعروفة عربياً، تلك التي هي رحلة لو كوربوزيه بين عامي 1910 و1911. ولكن هذه الرحلة لم تكن رحلة موضوعية علمية بروحية القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا كان فيها هذا الشاب وكيلاً مزهواً للحضارة الغربية يبحث عن تأكيد للذات في الصورة المناقضة لغريب قادم من عالم آخر. ولم يكن المتاع والخيل والخدم والكتب والأجهزة الأوروبية التي يمكن تمييزها، هي الأشياء التي قام برحلته من دونها فقط، بل وأيضاً من دون بنية التفكير الأوروبية الخاصة القائمة على أساس تمييز معرفي ووجودي من حيث المبدأ بين الشرق والغرب.

كانت الرحلة إلى الشرق بالنسبة لهذا المعماري هي الوقت الوحيد الذي لا يشعر فيه أنه غريب لأنه شعر بنفسه غريباً في أوروبا أكثر، كما لاحظ ج. غريسليري، محرر ترجمة كتابه إلى اللغة الإيطالية. وبتسليمه لأحاسيسه مهمة اكتشاف وحوار أصيلين، يترك الشرق يتبدى أمام ناظريه كتجربة بدلاً من أن يتبدى كموضوع "قائم في الخارج هناك" من أجل كتابة تقرير عنه.

ولأن انشغاله بتناغم المكان والزمان كان أكبر من انشغاله الرئيسي بالشرق، وهو ما ميّز رحلته عن غالبية الرحلات الأخرى، أو "الجولات الكبرى" كما في رحلة هيرمان هسّه الافتراضية إلى الشرق، فإن شرق لو كوربوزيه كان موضعاً يستمد منه الحكمة، ولهذا يمكن أن يكون أي مكان.

لقد تميزّت القرون الثلاثة، من 1600 إلى 1900، بالدرجة الأولى بانتشار روايات عن رحلات مرفقة بالشروحات، ثم برسوم اللوحات الشرقية، فقياسات الأبعاد المعمارية والاستطلاعات، وغالباً بتكليف ودعم من جمعيات أوروبا الشرقية والآسيوية، كما من هيئات الحكومات الاستعمارية. وتناول الكثير من الفلاسفة، من أمثال هايدغر، كيف أن النهج العلمي والعقل العملي منذ فرانسيس بيكون أعادا "تأطير" الطبيعة في إطار هوية تكون فيه موضوعاً، وقابلة للتمثيل والحساب، مجرّدة من حياة تخصها، "مدّخرة" للهيمنة البشرية. ولكن هذه العلاقة بين المعرفة والسلطة القائمة على أرضية إعادة إنشاء الطبيعة وتحويلها إلى موضوع للدراسة، لم تمتدّ بشكل مناسب إلى عالم الثقافة حتى مجيء كتابات فوكو، وكتابات إدوارد سعيد بالنسبة لحالة محدَّدة هي إعادة الإنشاء الاستشراقي.

ومع اعتراف الباحثة بوجود اختلافات مهمة، ولا يمكن التوفيق بينها على الأغلب موجودة بين هؤلاء المفكرين، إلا أنها تأتي بشواهد من سعيد وفوكو وهايدغر، وتجعلها خلفية فكرية وملهمة لأطروحتها عن طريقة النظر البديلة إلى الشرق. فبقدر ما تساعد أفكار هؤلاء على رؤية تمثيل المستشرق، كإنشاء غربي (إدوارد سعيد)، وكشكل من أشكال "الخطاب" (فوكو) وكشكل من أشكال إعادة التأطير (هايدغر)، تجمع على أن كل أشكال التمثيل هذه تسعى إلى السلطة.

الاختلاف البيّن بين رحلة لو كوربوزيه وكل هذا هو غياب الاهتمام التام بدوائر المعارف الذي تجسده عقلية "إعادة التأطير". وما ينتج عن هذا من عمل هو مصدر إلهام بدل أن يكون معلومات، ويجعل الحدود مبهمة بين الأدب ووثيقة الرحلة والنص المعماري أو كتاب التخطيطات. فنجد لو كوربوزيه يركز في تخطيطاته الشخصية وغير التقليدية التي تبدو مثل أفكار مبعثرة، على تجربة فريدة ومتفردة لا تلجأ إلى تنظيم مطبعي وتصنيفي وأسلوبي. واهتمامه بغيرية الشرق بوصفه مغايراً أقل من اهتمامه بطبيعة التجربة المعمارية من دون تدخل إنشاءات قبلية. إنه يضع تخطيطات أقل من أجل مطبوعات متوقعة، وتمييز منضبط بدلاً من التأمل والفهم. إنه يبتعد، كمعماري شاب، عن التراث الأكاديمي نحو أرضية لم يرتدها أحدٌ بعد، خارج حقل منطق الاستشراق، وخارج "التجوال الواسع" المعماري أيضاً.

في ذلك الوقت، كان من المتوقع أن تنجم عن الرحيل نتائج محددة يمكن التنبؤ بها، لأننا حين نرتحل لا نرى إلا ما نعرفه سلفاً، كما يقول ج. غريسليري، و"لهذا أرسل تراث "التجوال الواسع" طلبة الفنون في زيارات موجهة إلى روما وأثينا حيث كان القصد أن يكتشفوا بأنفسهم ما تعلموه سلفاً على يد كل أسلافهم في الدائرة نفسها تماماً. كانت غاية الرحلة ترسيخ اليقين".

هذا الغياب لهذا المشروع القائم على تأكيد الذات هو الذي مدّ لو كوربوزيه بإمكانية رؤية الشرق من موقع مشرف، وليس كما يفعل المستشرق وهو "يعيد تأطير" افتراضات مسبقة عن الشرق من منظور وجهة نظر "موضوعية" عن بعد.

إن رواية رحلة القرن الثامن عشر الشارحة تمثل صيغة رؤية إلى العالم تمنحنا صوراً أمامية وموضوعية كاملة للروائع المعمارية، أو تعتمد بشدة على صور من منظور شامل أو من منظور عين الطائر، مبرزة أهمية بعد المراقب وغيرية المكان المنظور إليه. تخطيطات لو كوربوزيه على النقيض من هذا، فهو يرسم شظايا لا تعرض أشياء مميزة مجملة، بل تعرض أجزاء من البنى معروضة بسلاسل من الرسوم التجريبية، ويجعل حضوره الجسدي في المكان مشعوراً به بقوة. وتوضّح هذه التخطيطات نظرة جيمس جبسون القائلة بأن "الإدراك هو البقاء على صلة بالعالم.. إنه إنجاز الفرد وليس ظهوره في مسرح وعيه".

وتعد تخطيطات تلّة الأكروبولوس في أثينا، على وجه الخصوص، آخر وقفة في رحلة لو كوربوزيه إلى الشرق، وتكشف عن الكيفية التي تصوغ فيها نزهة معمارية مكاناً. وهي النقطة ذاتها التي لاحظتها ستانفورد أندرسون في تقييمها لهذه الخطاطات الأولية: "لا يظهر البارثينون القائم على التلّة غامضاً جزئياً فقط، ولكن منظوراً إليه أيضاً من عدة زوايا، من الجانب ومن تحت. ولا نقف كمشاهدين في نقطة مميزة بحيث يمكن أن نتملك منها مشاهدة المبنى موضوعياً. وحتى إن تملكنا نقطة مثل هذه، فالرسم يقول لنا عندئذ إننا سنكون في وضع نفقد فيه شيئاً آخر؛ نفقد التجربة ذاتها والمعرفة التي لا تتأتى إلا عبر تجربة مثل هذه".

هذا لا يعني الادعاء بأن مقاربة لو كوربوزيه كانت مجرّد مقاربة تجريبية للواقع تهمل كلياً دور الأطر الفكرية التي تزوّد بالمعرفة إدراكنا ومعرفتنا بالأشياء. في الحقيقة إذا تذكرنا أن البارثينون نفسه في فن العمارة يبدو موضوعاً مثالياً، يمكننا أن نفهم أفضل برنامج لو كوربوزيه كله لإيجاد ترابطات بين التجريبي والفكري/العقلاني وبين الوضع الدنيوي مع الفكرة التجريدية. الأطروحة هنا هي ضد تأكيد منفرد على واحد على حساب آخر، كما تمثله بعض الرسوم الاستشراقية والأوصاف التي تحوّل فيها فكرة الشرق السائدة كموضوع منظور إليه إلى تجسيد موضوعي لتلك الفكرة نفسها.

ويظل اختزال الواقع مشكلة أساسية لا يمكن الإفلات منها في أي إدراك وسيط، سواء تم التوسط عن طريق تقانة أدوات مثل الرؤيا عبر المجهر أو المنظار المقرب، أو تقانة التمثيل كما في الرسوم التخطيطية المعمارية. وتماثل الطريقة التي يسهّل فيها المنظار المقرب تكبير إحساس المرء البصري مع اختزال يلازمه لكلية التجربة، طريقة تمثيل الشرق بالتغلب على المسافة ووضعه في مدى النظر، مع ما يلازم ذلك من خلوه من الصوت والرائحة والحركة والحياة.

إن أفضل من عبّر عن هذا التلازم بشكل عام، والمحدودية التي يتسم بها تمثيل التقاطعات الثقافية بخاصة، هو لو كوربوزيه ذاته في ختام رحلته إلى الشرق بالكلمات التالية: "لماذا أقوم بهذه المهمة العقيمة؟ لقد اعتقدت أنه سيكون أمراً جميلاً أن تكون لديّ التجارب الحيّة لهذه الرحلة، ولكن هذه الملحوظات لا حياة فيها؛ الجماليات التي رأيتها تنهار تحت قلمي دائماً".

المساهمون