لوركا الغرناطيّ: هارباً من جنة البخلاء

16 فبراير 2016
فيديريكو غارسيا لوركا، 1898-1936 (Getty)
+ الخط -
لوركا الغرناطيّ، أو هذا ما كان يحبُ أنْ يقوله دائماً أنّه ينتمي إلى "مملكة غرناطة"، وأيُّ غرناطة، تلك العربيّة بروحها، بتراثها وبألوانها الباهية. لم يتردد الكاتب الإيرلندي إيان جبسن، في كتابه "غرناطة لوركا"، أنْ يكتبَ للقارئ العربيّ مقدمةً لترجمة الكتاب بالعربية التي قام بها حسين عبد المجيد زهرة، وفيها يوحي جبسن عن علاقة لوركا بغرناطته العربيّة، ومدى تأثره بالموروث الحضاريّ العربيّ في الأندلس بشكل عام. ويعرِج الكاتب على أن عدمَ معرفته بالعربيّة يسرق منه فُرص التّعرف الجيد على حقبة الدولة الأندلسيّة، والوجود العربيّ فيها.

ولشدة تأثره بالتراث العربي على تلك الأرض واحتفاءً بهذا التأثر الجمالي الذي كنّه لوركا وجماعته المعروفة بـ"الزُويّة"، فما كان منه إلا خلق تلك المبادرة التي أوجدها كلّ من لوركا وصديقه فرانثيسكو سوريانو لا بريثا، ففي عام 1921 قاموا بتخصيص بقعة أرض بين سفوح جبال الثلج، وتحديداً في قرية "ثوبيا"، ضريحاً يكون إحياءً لذكرى ابن طفيل، وآخرين من مفكري غرناطة والعرب. يقول لوركا عن سقوط غرناطة بيد الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند سنة 1492: "كانت نكبة، على الرغم من أنهم يلقوننا في المدارس العكس. حضارة رائعة، وشعر، وفلك، وعمران، ورقة شعور فريدة في العالم، ضاعتْ كلّها لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي جنة البخلاء".

يبدأ إيان جبسن في سرد تلك التفاصيل عن المدينة والشاعر بدءاً من الباب الملكيّ في المدينة، بين تقاطع شارع الفنادق والهونديغا، حيث يستقرّ هناك مقهى غرناطة الكبير، والمعروف أيضاً بـ"المقهى السويسري" (وقد أغلق منذ سنوات)، من هناك أيضاً يمرّ نهر دارو "حدارُّه" ويجري تحت شارع الملكين الكاثوليكيّين، وينعطف من أمام المقهى السويسريّ ليلتقي بنهر غرناطة الثاني شينيل في نهاية الشارع، ولنهر دارو في الإسبانيّة اسمان "دارو، دورو"، الأول يأتي بمعنى مجرى المياه القذرة والثاني اشتُقّ من الذهب، إلا أن مجنون غرناطة كان يحب أن يذكر الاسم الآخر الذي يدل على الذهب "دورو"، وفي إحدى قصائده يذكر برج الوادي الكبير في الأندلس (والذي لم يتغيّر لفظه في الإسبانيّة عن العربية وما زال يحتفظ به حتى الآن)، في إشارة إلى برج خيرالد الكبير في إشبيلية وإلى النهرين المذكورين:
وادي الكبير، برج عال
والريح في بساتين البرتقال.
دارو وشانيل، برجان صغيران
ميتان فوق البرك.

كان لوركا يقضي أغلب وقته في مدريد، وعندما انتقل أول مرة اليها للدراسة في كلية الفلسفة والآداب، تعرّف على سلفادور دالي، وغونغروا، وبقية السرياليين، وهناك ربطته علاقة قوية ببابلو نيرودا عندما كان سفير بلاده في إسبانيا. إلّا أن لوركا كان يحبّ قضاء الصّيف في بيت العائلة في غرناطة، والواقع في بستان القديس فيثينتي.

اعتاد لوركا أن يقضي وقته متأملاً في بستان القديس فيثينتي وكان يحبّ أن يبقى وحيدا. في المرة ما قبل الأخيرة التي كان فيها لوركا في غرناطة، كان في أسوأ حال، ويرجع ذلك إلى حياته الغرامية البائسة، فكتب قصيدته التي تنبأت بموته في بيت أهله، وهي قصيدة الوداع:
إذا متُّ،
دعوا النافذة مفتوحة
الطفل يأكل البرتقال
(أراه من نافذتي)
الحاصد يحصدُ القمح
(أسمعه من نافذتي)
إذا متّ،
دعوا النافذة مفتوحة!

في القصيدة السابقة نستشعر تعطش لوركا للبقاء حراً حتى في مماته، ونحسّ أمنيته في البقاء في غرناطة. أما في ديوانه "التماريت"، وهي كلمة تعني شجرة التمر، كتب لوركا هذا الديوان إحياءً لذكرى شعراء العرب الغرناطيين، فيقول لوركا:
بين بساتين النخيل
جاء كلاب الرصاص
تنتظر سقوط الأغصان،
تنتظر أن تتكسّر وحدها.

عاد لوركا للمرة الأخيرة إلى غرناطة في صبيحة 14 تموز/ يوليو 1936، قلقا من العنف المتزايد في مدريد حيث قتل في ذلك الوقت عضو البرلمان اليمينيّ المتشدّد خوسيه كالفو سوتيلو. ومنذ عودته إلى غرناطة، والكتائبيون ينقضّون على الشعراء والمفكرين والفنانين ويسوقونهم إلى مكان بعيد لاغتيالهم. ولاغتيال لوركا قصة طويلة مليئة بالتفاصيل، يتابعها إيان جبسن بدقة في الفصل السادس من الكتاب حيث التقى مع شخصيات سمح لها القدر أن ترى لوركا قبل أن يُساق من معتقله إلى المجهول في يوم 16 أغسطس/ آب 1936.

بابلو نيرودا الذي كان قنصلاً في إسبانيا لبلاده تحدث عن لوركا في مذكراته "أعترف بأني قد عشت"، ضمن فصل من الكتاب بعنوان "إسبانيا في القلب"، "كان يفتنني بقدرته العظيمة على الاستعارات والمجازات، وكان يهمني أن أقرأ كل ما يكتبه، وكان يطلب مني أن أقرأ له آخر ما كتبته من قصائد، وحين أكون في منتصف القراءة يقاطعني صارخاً "لا تستمر، لا تستمر، أنا أتأثر بك".

أما المخرج السينمائي لويس بونيل الذي التقى مع لوركا في الجامعة في مدريد وربطته به علاقة مميّزة، فقال معقباً على فقدانه: "كأن نبأ موته أمراً رهيباً بالنسبة إلينا جميعاً. لقد قتلوا لوركا لأنه كان شاعراً؛ كانت الصيحات تعلو في الجانب الآخر: فليمت الفكر".

(كاتب سوري)
دلالات
المساهمون