لوحة ذاتية

05 مايو 2015
+ الخط -
أنجز الفنان الفرنسي بيير بونار (1867 – 1947) لوحته الذاتية هذه حين كان في الثانية والعشرين من عمره. وقد اشتراها هاوي فنّ أميركي بمبلغ يقارب المليون يورو في مزاد عقد في شهر مارس/آذار المنصرم في فرنسا. ليست هذه اللوحة الذاتية إلا واحدة من سلسلة أنجزها الفنّان المعروف بتردّده في إنهاء لوحاته، وشكّه المستمرّ بضربة الريشة الأخيرة.
ويروى أن حارس متحف اللوكسمبورغ فاجأ زائرًا غريب الأطوار "يخربش" على سطح إحدى لوحات بونار التي اقتنتها حديثًا بلدية باريس. ضبط الحارس الرجل بـ "الجرم المشهود" وطلب منه الكشف عن هويته. لم يكن الزائر إلا الفنان بونار نفسه، إذ لم يستطع مقاومة رغبته بتصحيح درجة اللون الأخضر في اللوحة. "كما ترى فإن العمل على اللوحة لا ينتهي أبدًا"، هذا ما قاله الفنّان للحارس. ولم تكن تلك المرة هي المرّة الوحيدة التي يعيد بونار النظر في لوحاته حتّى وهي في المتاحف. متسلحًا بعلبة ألوان صغيرة، وريشة قصيرة، زار بيير بونار متاحف كثيرة في فرنسا، كي "يصحّح" لوحاته بنفسه. وقيل أيضًا إنه لم يكن يتردّد البتة في عرض خدماته التصحيحية تلك، على الأفراد المقتنين للوحاته، كنوع من "خدمة ما بعد البيع" لو جاز التعبير. وينسجم ذلك مع طريقته في الرسم، حيث يبدأ بضربات ريشة صغيرة ومتسارعة، ثم يرجع خطوات إلى الوراء، يصدر حكمه على العمل، ومن ثمّ يتابعه وهكذا.
ووفقًا لمواطنه فيكتور هوغو، فإن التردّد واللايقين هو "وحدة، حتّى أن إرادة المرء نفسه لا تكون معه".
بونار رسّام ما هو حميم ورسّام تلك المتع البسيطة في الطبيعة والبيوت. ألوانه هي بصمته الخاصّة، وإشعاع اللون الأصفر على طريقته، لا يشبهه إشعاع. ومن أحد ألقابه "الملوّن المثال" إذ يستطيع عمل "رتوش" للوحته أزيد من مائة مرّة. ووفقًا للتحليل النفسي فإن طبعه الخاص هذا، نابع من دون ريب، من الشكّ والتردّد. ولعلّ هذا ما حدا ببابلو بيكاسو أن يصفه بكلامٍ قاسٍ : "لوحاته ليست إلا وعاءً معفنًا لتردّده".
رافق التردّد بونار طيلة حياته وحتّى القبر، فقد طلب، قبل يوم من وفاته، من أحد أولاد أخيه (شارل)، أن يصحّح باللون الأصفر اللون الأخضر في أسفل ويسار لوحته الأخيرة: "شجرة اللوز المزهرة". نفذ شارل ما طلبه منه عمّه، لكنّه وهو يصحّح محا جزءًا من توقيع بونار على اللوحة.
طبع بونار الغريب هذا، سرى في سماء الفنّ وبين الفنّانين، وغدا مصطلح "البونارية" إن جاز الاشتقاق، دالًا على سمة التردّد في وضع اللمسة الأخيرة.
المساهمون