28 مايو 2024
لندن.. العودة إلى مركز الاشتباك الحضاري
مهنا الحبيل
أخَذَت زيارة لندن في صيف هذا العام 2018 بعداً خاصاً، يمكن أن أطلق عليه عمقاً محورياً، وبالذات في فهم القضية المركزية، في أنسنة الصراع التاريخي بين الهيمنة الغربية وأرض العالم الجنوبي ومعقله الشرقي. والقصود بالأنسنة هنا فرض مبررات إنسانية (حضارية) مزعومة لصالح الاستعمارات الغربية الدموية، وكيف عُزل هذا الإرث عن آفاق البحث، عن مصالح حضارية حقيقية بين الشرق والغرب، ببعد ثقافي مستقل. وهو يعيد التذكير بأهمية أرشيف النقد اليساري، وبحوثه وحفرياته في الفكرة الغربية عن الشرق، لكننا اليوم استهللنا بهذه المقدمة، لنشير إلى أهمية "بريطانيا العظمى"، والعقل الإنكليزي، في محطة البحث الذي أتابع الطريق فيه "العلاقة الغربية الإسلامية.. الطريق الثالث".
ويجدر بي هنا التنويه بأن البحث استقرائي، لا استقصائي أكاديمي، وأنه يعمل على أخذ مجسّات ثقافية، تُعطي دلالاتٍ مهمة مؤكّدة لموضوع البحث، وهل هناك فرصٌ لتعزيز قيم التعاون الحضارية، المستقلة عن طريقي الاستبداد وتيار التطرّف في الشرق، وما يُقابله من انحياز حكومي، وتياراتٍ يمينية، وسياسات هيمنة شرسة في الغرب.
ولعل من نتائج هذه المجسّات التي تتعزّز في كل محطة أنه لا يوجد قطعٌ ينفي وجود التيار الثالث، بل هناك في الدراسات القديمة والحديثة نفسها، وشخصيات البحث عن الإنصاف الحضاري، ما هو جدير بالجمع والتحقيق والتواصل، لكنّ الحقيقة التي نراها جاثمة في كل الطرق أن هذا النبض المستقل ضعيف للغاية، وأن من أهم أسباب ضعف تعزيزه وتواصله غياب إطارات ومنصات الدعم المستقلة.
رجوعا إلى النقطة الأولى في عنوان المقالة، العودة إلى الاشتباك الحضاري، ولماذا لندن؟
المقصود أولاً في هذا المصطلح أنه اشتباكٌ تفاعلي، وليس بالضرورة اشتباكا، وإن كان العهد القديم للشرق مع بريطانيا هو كذلك في شراسته، فمنذ بدأ البحث في مصادر نقد الاستشراق كانت هناك دلالة مباشرة أن دولتي الاستعمار الغربي، بريطانيا وفرنسا، الأكثر اهتماماً وتحريراً للمادة الفكرية الخاصة بالعلاقة مع الشرق. وبالتالي، فَرضت هذه المعادلة نفسها على العلاقات والبحوث الفكرية الجديدة، ولعل طبيعة العقل الإنكليزي كانت أكثر تداولا وانفتاحاً من فرنسا، بشأن ثقافة تلك المستعمرات التي لم تغب عن شمسها، وبالتالي كانت لندن المركز الأكثر حيوية للبحث، والتي تحتاج إلى مجسّات أعمق، وأكثر توسعاً من غيرها.
وكسائح يحمل خلفية ثقافية، لم تكن لندن تمثل ذلك المزاج الحاد في التعامل، بل على العكس، لغة التواصل، والود الإنساني العام حاضرةٌ في شارعها، ولا يُلاحظ الصلف المنعوت به الرجل الإنكليزي الصارم، ويجدر بنا هنا التوقف عند لندن الجديدة، التي يشكل مواطنوها، المهاجرون من مستعمراتها السابقة، نسبة واسعة من سكانها، باتت تتداخل في نسيج المجتمع اللندني، من دون أن تفقد السلطة البريطانية التاريخية، زخمها الملكي الكاثوليكي الذي يزدحم الناس عنده يومياً في مقابل قصر باكنغهام. ومن دون أن تفقد حكومة إنكلترا ومجلس العموم و10 داوننغ ستريت، حصيلة الإرث المتطوّر لصناعة القرار والتاريخ السياسي، في الأفق البريطاني المشحون بأرشيفٍ ضخم، غابت سلطته عما وراء البحار، ولكن لم تغب صورته المخضرمة العتيقة مع العالم.
وكأنما أجراس بيغ بن في "وست منستر"، التي قُرعت في يونيو/ حزيران 1859، تَدُّق اليوم بعُرفين لندنيين لـ 2018، هي أن الوفد الجديد الذي هاجر من مستعمراتنا قد دُمج في شعب بريطانيا، وها هو عمدة لندن الجديد من رعايا شركة الهند الشرقية، فهي صورةٌ تبدو حضاريةً في وجهها الأول، لكنها لا تُسقط الوجه الثاني الذي يحتاج الباحث أن يتوقف عنده، وهل غابت شمس تدخلات المصالح الغربية عن تلك الأرض الحزينة في الشرق.
غير أن توازن التأصيل لتناقل الوعي الحضاري المعرفي لا تُسقط مطلقا كل بعدٍ إيجابي تسطّره رحلة الحضارات، أكانت في سياق المتغلب، أو المقاوم الإنساني، وإنما تَلتقط من دروسها ما يؤسس أرشيفها المعرفي، لارتقاء البشرية، وسؤال الحكمة الإسلامية.
وبطبيعة الحال، فإن منعطف رحلة مسلمي المهجر اليوم، كأحد السياقات الذي يتوقّف عندها هذا البحث، هو الأكثر قدرةً ومسؤوليةً لصناعة الفكر الجديد الذي تقوم عليه تجربتهم الدستورية، كمواطنين وفقاً للدستور الوطني الذي منحهم هذه الجنسية، في بلدان الغرب الجديدة. ولعل أحد مسارات التحدي لتقدّم الجالية في بريطانيا، حول هذا الفكر الجديد، الذي يحتاجونه في واقعهم الوطني المهجري. أو في فكرة بقاء تضامنهم مع الشرق وقضايا المسلمين، وأهميته، لكن عبر صناعة ذكية وحيوية، تساهم في دعم فكر النهضة، سواء سقط مزيدٌ من الشرق أو صمد، ومادة النهضة الفكرية هي العنصر القادر على تخفيف الكوارث السياسية، والأهم صناعة أرضية سليمة، تحميها من أمراض الشرق التي كرسّتها نظم الاستبداد. ومكّنها من ذلك الفقه والفكر المريضان، فالفقه المريض لا يمنع تقدّم الشعوب فقط، بل يورّثها أوبئةً وأزماتٍ نفسية وخللا بنيويا يساعد كل دكتاتورية للتلاعب بها، وهي تستمر في الصراخ في لعن الغرب، لمجرّد التنفيس عن قهر المستبد، من دون وعي أين تقف أفكار النهضة، ومستقبل المعرفة الإسلامية المقاصدية، من فهم تجارب الحياة المدنية للشعوب، وصناعة استقرارها.
وكان من حسن حظ الباحث أن تكون لرحلتي وقفة جيدة في دار الرعاية الإسلامية، في شمال لندن الذي أقدم لرئيسه، الدكتور توفيق قاسمي، وزملائه شكري الجزيل، على تعاونهم المميز، فهذه المؤسسة التي تَعرّضت لحادثة إرهابية من يمينيّ غربيّ متشدّد فتحت لها هذه القضية بوابة تواصل حيوية، حيث كان النشطاء اليساريون والمسؤولون الكنسيون يواصلون زيارتهم وحواراتهم، لإظهار رفضهم أي عمل يمسّ المدنيين والحياة الاجتماعية في بريطانيا والعاصمة لندن، وهذا بعدٌ إيجابي حيوي، يقابله أو استبقه جهود من ممثلي وفعاليات المسلمين في بريطانيا، والذي يُشير إلى تحوّل نوعي في طريقة التفكير المدني لمسلمي بريطانيا.
ولكن وبحسب حديث شخصيات من الجالية معي، فلندن أيضا تعاني من انقساماتٍ ومد فقهي وثقافي متشدّد، لا يزال موجوداً، يرفض فكر النهضة والتجديد المقاصدي الإسلامي، ويرتبط
بحالات التعصّب التي عاش تحت نيرها الشرق، واستخدمها الاستبداد لحرمان الشعوب من حقوقها وآمالها في الحرية والكرامة، وقد وجدت ذلك ماثلاً أمامي، في الفعاليات نفسها التي شاركت فيها، حيث وجدتُ شخصية تعتبر من خيرة دعاة الفكر والوعي المقاصدي، كالدكتور عادل صلاحي، وخبرته الغزيرة التي خرج عبرها بفكره التنويري، بعد رحلةٍ مخضرمةٍ مع الحالة الإسلامية الدعوية، وقراءاته ومراجعاته الفكرية الخاصة في المهجر، في مقابل شخصيةٍ رافضةٍ لذلك، عبرت عن رأيها في المناقشات، وأعلنت تجديد إيمانها بمرجعها المتشدّد.
وفكرة الحوار وتبيين مقاصد الفكر الإسلامي المدني، وأهميته لمستقبل مسلمي الغرب وشراكتهم وضمان حقوقهم، مع المحافظين، وحتى المتشدّدين السلميين، أي الذين لا يؤمنون بالعنف، هو ضرورة لهذه الرحلة لمسلمي بريطانيا، والغرب عموما، مذكّرين بأن واقع الشرق اليوم يتحوّل إلى أزماتٍ جديدة، وأن من ضرورة الضرورات أن يفهم المسلمون أن أوطان المهجر باتت مستقراً دائماً لأجيالهم، ويعملون لتأمين القاعدة الفكرية لمستقبلهم الدستوري، قبل أن تصدمهم احداث المستقبل ورمال الشرق المتحرّكة.
تتمحور نصف المهمة في علاقة الغرب بالوطن العربي والحضارة الإسلامية، اليوم، في مستقبل العرب والمسلمين في الأرض الجديدة، وهو مستقبلٌ تتكرّس أهميته، وكأنما تعود إلى ما قبل الاستقلال وربما أسوأ، بناءً على توحّش الاستبداد الحاكم، وخصوصا في الوطن العربي وإيران، وبعض بلدان الشرق الأخرى. ومن جانب آخر ما قاد له هذا الاستبداد، والثورة المضادّة من إسقاط كامل الاستقرار الاجتماعي للدول القُطرية العربية، بين دولة حربٍ أو دولة فاشلة.
ومع موجات النزوح التي تتزايد، وعلى الرغم من كل الحواجز التي تسعى إليها أوروبا، والولايات المتحدة الأميركية، لوقف موسم الهجرة إلى الشمال، إلّا أن قبائل المشرّدين والمضطهدين مستمرة في النزوح، وإن كان ثمن ذلك تهديد حياتهم وفلذات أكبادهم. وأمام هذه الظاهرة العالمية، تعود أسئلة الفلسفة وسؤال الأخلاق والعدالة الإنسانية إلى السطح، فمع كل هذه الهموم والمعاناة والهولوكوست المتنقلة، يصعد يمينٌ عنصريٌّ في الغرب، وتمثيله البرلماني والحكومي، ويُهاجم أجيال الهجرة، ويقنّن لطردهم، من دون أن تطرح أصل المسألة الأخلاقية على طاولة البحث.
من المسؤول عن هذه المعاناة ونشوئها واستمرارها، وهو اليوم حوار يساري النّزعة في مجمله، بما فيه تيار الفكر الإسلامي المدني، وهو يلتقي مع أطياف العدالة الصاعدة في أوروبا وأميركا، وخصوصا في المعهد الإنكليزي العتيق، المتضامنة مع حقوق جنوب العالم، غير أن هذه المقاومة الإنسانية تفتقد اليوم تلك المنصّات الجريئة التي تُحوّل دراسة العمق السياسي، والفلسفي للتاريخ الإنساني المعاصر، إلى مذكرة ثقافية، يتداولها الجمهور الإنساني العام، في الغرب والعالم الإسلامي.
تقول للعالم إن الجزء الرئيسي من أسباب التخلف، وتمكّن الاستبداد، مصالح الغرب الأبيض، ليس كمنظور عنصري، أسقطه الإسلام مبكّرا، فكما أن لذوي السحنة السمراء حقوقا متساوية، فالبشرة البيضاء لا تستثنى من تساوي الحقوق وعدالة المشاعر، فهل نحن اليوم بحاجةٍ إلى العودة إلى مهمة الاستغراب الإسلامي، بالمفهوم الحضاري للفكرة الإسلامية، لا التيارات الدينية.
اليسار الشرقي والاستغراب الإسلامي.. المهمة المعطّلة
فمنذ توقيع الملكة إليزابيث الأولى، في ديسمبر/ كانون الأول 1600، مرسوم إنشاء شركة الهند الشرقية، ظلت كل مناطق الشرق تحت سلطات هذا المشروع الذي كان مجرّد غطاء لهيمنة التاج البريطاني الاستعمارية. ولسنا في صدد تفاصيل تاريخ الشعوب التي وقعت تحت النفوذ البريطاني السياسي المطلق، ولا معاناتها، وهناك جدلية في مقارنات الشرق للنمط الاستعماري.
كما أن هناك ترميزا خاصا للعقل الإنكليزي، بحيث أن الأقل دموية في تاريخ الحملات الغربية كان الاحتلال الإنكليزي، وكان، في الوقت نفسه، الأخطر في تفكيك قوة الشرق الفكرية والسياسية، من دون أن يُقلّل ذلك من أدواء الشرق المهلكة لذاته، عبر توحّش الاستبداد، والحرب على الإبداع الفكري الذي سعى إلى إيقاظ النهضة في أطرافه وأقطاره.
وهي مائدة حوار ونقد مزدوج، منذ حرّر المفكر اليساري المصري، أنور عبد الملك، مفصل المسألة في عنصرية الحضارة الغربية، وقراءتها الاستشراقية، مع التحفّظ على كل ما لا يعتبر حضارة، ويُدرج تحت هذا المصطلح الفضفاض، وتحديدا لعبد الملك، نقصد به فكرة الإيمان بأن مشروع النهضة المنصف للشرق لا يُمكن تنفيذه، وإيجاد أرضية وعي له، من دون أن
يَصنع ذلك في قوميته وقيمه الذاتية، وهي الفكرة التي أسّس عليها إدوارد سعيد منظومته التاريخية في نقد الاستشراق. ولا أقول إن تأثر سعيد كان إلهاماً، ابتداءً مع أنور عبد الملك بالضرورة، وإنما المقصود أن بحث سعيد الأكثر عمقاً قاده إلى حفريات أنور عبد الملك الذي نظر إلى الغرب بالبعد اليساري المتصل بالشرق، ونقله من صدمة الإعجاب المطلق إلى تحرير المسافة الحضارية والموقف الأخلاقي من الشرق. ونعني بذلك أن الأرشيف الضخم، الذي وقف عليه سعيد، للانحياز الأعمى في غالب الدراسات الاستشراقية، وعلاقاتها بمقدّمات الاستعمار، وبحسب كتاب سعيد نفسه، شعر أن أنور عبد الملك قد وصل إليها مبكراً.
ومع طبيعة واقع الشرق، وإشكالية غياب الحُكم العادل المقاوم للاستعلاء الغربي، الفكري والسياسي، والذي تعرّضت له مصر في نماذج عدة، تنقلت رؤية أنور عبد الملك التي تصيب كل مفكر، حين يتنزّل على الأرض السياسية، وتبدأ النسبية في تقدير الموقف تضغط عليه، تحت ظلال الحروب والمشاريع الاستعمارية، والذي قد تكون سياسة المستبد القومي، وحربه حق الشعوب الديمقراطي، ونقصد بالقومي السلطة الحاكمة للأوطان لا الفكر، فهي أبرز عناصر تمكين القوة الغربية القهرية على الشرق، بسبب سياساته الدكتاتورية، ملكياً كان أو جمهورياً.
وأحسب أن وصف الناشط والمفكر اليساري المخضرم في حزب العمال البريطاني، بول هول بورو، وهو مناهض قوي للعنصرية، وأحد أبرز مؤسسي حركة مناهضة الحروب التي نشأت عند الحرب على العراق، وهو أكثر شخصية غربية، وجدتُ لديه حماسا وتشجيعا لفكرة البحث. فقال لي: سبب هذه الصعوبات التي تُحاصر الجهد الفكري المستقل أننا نعيش زمن رأسملة الثقافة، وأظنه بالفعل وصفا في غاية الدقة، وهي ظاهرة خطرة في علاقات المجتمعات والشعوب، بحيث يكون ترمومتر التواصل والعلاقات الإنسانية، ليس قائماً على خلاصات الفكر الإنساني، لوضع معايير المعرفة والحضارة الإنسانية، وإنما وفقا لقرار الرأسمالية النفعية.
تعطي هذه الدراسة المختصرة ضمن البحث القائم مقدّمة لمساحة الفراغ القائم، في وعي المهمة الفكرية للشرق التي شارك فيها المسلمون، وغيرهم من ديانات الشرق، وسؤال البحث عن مساحة العلاقة المستقلة، غير أنه يطرح هنا العودة إلى فكرة النقد الموضوعي لتحرير أرضية المشترك الحضاري، في جدل الشرق الداخلي، ومع حلفاء الفكرة اليساريين.
ويجدر بي هنا التنويه بأن البحث استقرائي، لا استقصائي أكاديمي، وأنه يعمل على أخذ مجسّات ثقافية، تُعطي دلالاتٍ مهمة مؤكّدة لموضوع البحث، وهل هناك فرصٌ لتعزيز قيم التعاون الحضارية، المستقلة عن طريقي الاستبداد وتيار التطرّف في الشرق، وما يُقابله من انحياز حكومي، وتياراتٍ يمينية، وسياسات هيمنة شرسة في الغرب.
ولعل من نتائج هذه المجسّات التي تتعزّز في كل محطة أنه لا يوجد قطعٌ ينفي وجود التيار الثالث، بل هناك في الدراسات القديمة والحديثة نفسها، وشخصيات البحث عن الإنصاف الحضاري، ما هو جدير بالجمع والتحقيق والتواصل، لكنّ الحقيقة التي نراها جاثمة في كل الطرق أن هذا النبض المستقل ضعيف للغاية، وأن من أهم أسباب ضعف تعزيزه وتواصله غياب إطارات ومنصات الدعم المستقلة.
رجوعا إلى النقطة الأولى في عنوان المقالة، العودة إلى الاشتباك الحضاري، ولماذا لندن؟
وكسائح يحمل خلفية ثقافية، لم تكن لندن تمثل ذلك المزاج الحاد في التعامل، بل على العكس، لغة التواصل، والود الإنساني العام حاضرةٌ في شارعها، ولا يُلاحظ الصلف المنعوت به الرجل الإنكليزي الصارم، ويجدر بنا هنا التوقف عند لندن الجديدة، التي يشكل مواطنوها، المهاجرون من مستعمراتها السابقة، نسبة واسعة من سكانها، باتت تتداخل في نسيج المجتمع اللندني، من دون أن تفقد السلطة البريطانية التاريخية، زخمها الملكي الكاثوليكي الذي يزدحم الناس عنده يومياً في مقابل قصر باكنغهام. ومن دون أن تفقد حكومة إنكلترا ومجلس العموم و10 داوننغ ستريت، حصيلة الإرث المتطوّر لصناعة القرار والتاريخ السياسي، في الأفق البريطاني المشحون بأرشيفٍ ضخم، غابت سلطته عما وراء البحار، ولكن لم تغب صورته المخضرمة العتيقة مع العالم.
وكأنما أجراس بيغ بن في "وست منستر"، التي قُرعت في يونيو/ حزيران 1859، تَدُّق اليوم بعُرفين لندنيين لـ 2018، هي أن الوفد الجديد الذي هاجر من مستعمراتنا قد دُمج في شعب بريطانيا، وها هو عمدة لندن الجديد من رعايا شركة الهند الشرقية، فهي صورةٌ تبدو حضاريةً في وجهها الأول، لكنها لا تُسقط الوجه الثاني الذي يحتاج الباحث أن يتوقف عنده، وهل غابت شمس تدخلات المصالح الغربية عن تلك الأرض الحزينة في الشرق.
غير أن توازن التأصيل لتناقل الوعي الحضاري المعرفي لا تُسقط مطلقا كل بعدٍ إيجابي تسطّره رحلة الحضارات، أكانت في سياق المتغلب، أو المقاوم الإنساني، وإنما تَلتقط من دروسها ما يؤسس أرشيفها المعرفي، لارتقاء البشرية، وسؤال الحكمة الإسلامية.
وبطبيعة الحال، فإن منعطف رحلة مسلمي المهجر اليوم، كأحد السياقات الذي يتوقّف عندها هذا البحث، هو الأكثر قدرةً ومسؤوليةً لصناعة الفكر الجديد الذي تقوم عليه تجربتهم الدستورية، كمواطنين وفقاً للدستور الوطني الذي منحهم هذه الجنسية، في بلدان الغرب الجديدة. ولعل أحد مسارات التحدي لتقدّم الجالية في بريطانيا، حول هذا الفكر الجديد، الذي يحتاجونه في واقعهم الوطني المهجري. أو في فكرة بقاء تضامنهم مع الشرق وقضايا المسلمين، وأهميته، لكن عبر صناعة ذكية وحيوية، تساهم في دعم فكر النهضة، سواء سقط مزيدٌ من الشرق أو صمد، ومادة النهضة الفكرية هي العنصر القادر على تخفيف الكوارث السياسية، والأهم صناعة أرضية سليمة، تحميها من أمراض الشرق التي كرسّتها نظم الاستبداد. ومكّنها من ذلك الفقه والفكر المريضان، فالفقه المريض لا يمنع تقدّم الشعوب فقط، بل يورّثها أوبئةً وأزماتٍ نفسية وخللا بنيويا يساعد كل دكتاتورية للتلاعب بها، وهي تستمر في الصراخ في لعن الغرب، لمجرّد التنفيس عن قهر المستبد، من دون وعي أين تقف أفكار النهضة، ومستقبل المعرفة الإسلامية المقاصدية، من فهم تجارب الحياة المدنية للشعوب، وصناعة استقرارها.
وكان من حسن حظ الباحث أن تكون لرحلتي وقفة جيدة في دار الرعاية الإسلامية، في شمال لندن الذي أقدم لرئيسه، الدكتور توفيق قاسمي، وزملائه شكري الجزيل، على تعاونهم المميز، فهذه المؤسسة التي تَعرّضت لحادثة إرهابية من يمينيّ غربيّ متشدّد فتحت لها هذه القضية بوابة تواصل حيوية، حيث كان النشطاء اليساريون والمسؤولون الكنسيون يواصلون زيارتهم وحواراتهم، لإظهار رفضهم أي عمل يمسّ المدنيين والحياة الاجتماعية في بريطانيا والعاصمة لندن، وهذا بعدٌ إيجابي حيوي، يقابله أو استبقه جهود من ممثلي وفعاليات المسلمين في بريطانيا، والذي يُشير إلى تحوّل نوعي في طريقة التفكير المدني لمسلمي بريطانيا.
ولكن وبحسب حديث شخصيات من الجالية معي، فلندن أيضا تعاني من انقساماتٍ ومد فقهي وثقافي متشدّد، لا يزال موجوداً، يرفض فكر النهضة والتجديد المقاصدي الإسلامي، ويرتبط
وفكرة الحوار وتبيين مقاصد الفكر الإسلامي المدني، وأهميته لمستقبل مسلمي الغرب وشراكتهم وضمان حقوقهم، مع المحافظين، وحتى المتشدّدين السلميين، أي الذين لا يؤمنون بالعنف، هو ضرورة لهذه الرحلة لمسلمي بريطانيا، والغرب عموما، مذكّرين بأن واقع الشرق اليوم يتحوّل إلى أزماتٍ جديدة، وأن من ضرورة الضرورات أن يفهم المسلمون أن أوطان المهجر باتت مستقراً دائماً لأجيالهم، ويعملون لتأمين القاعدة الفكرية لمستقبلهم الدستوري، قبل أن تصدمهم احداث المستقبل ورمال الشرق المتحرّكة.
تتمحور نصف المهمة في علاقة الغرب بالوطن العربي والحضارة الإسلامية، اليوم، في مستقبل العرب والمسلمين في الأرض الجديدة، وهو مستقبلٌ تتكرّس أهميته، وكأنما تعود إلى ما قبل الاستقلال وربما أسوأ، بناءً على توحّش الاستبداد الحاكم، وخصوصا في الوطن العربي وإيران، وبعض بلدان الشرق الأخرى. ومن جانب آخر ما قاد له هذا الاستبداد، والثورة المضادّة من إسقاط كامل الاستقرار الاجتماعي للدول القُطرية العربية، بين دولة حربٍ أو دولة فاشلة.
ومع موجات النزوح التي تتزايد، وعلى الرغم من كل الحواجز التي تسعى إليها أوروبا، والولايات المتحدة الأميركية، لوقف موسم الهجرة إلى الشمال، إلّا أن قبائل المشرّدين والمضطهدين مستمرة في النزوح، وإن كان ثمن ذلك تهديد حياتهم وفلذات أكبادهم. وأمام هذه الظاهرة العالمية، تعود أسئلة الفلسفة وسؤال الأخلاق والعدالة الإنسانية إلى السطح، فمع كل هذه الهموم والمعاناة والهولوكوست المتنقلة، يصعد يمينٌ عنصريٌّ في الغرب، وتمثيله البرلماني والحكومي، ويُهاجم أجيال الهجرة، ويقنّن لطردهم، من دون أن تطرح أصل المسألة الأخلاقية على طاولة البحث.
من المسؤول عن هذه المعاناة ونشوئها واستمرارها، وهو اليوم حوار يساري النّزعة في مجمله، بما فيه تيار الفكر الإسلامي المدني، وهو يلتقي مع أطياف العدالة الصاعدة في أوروبا وأميركا، وخصوصا في المعهد الإنكليزي العتيق، المتضامنة مع حقوق جنوب العالم، غير أن هذه المقاومة الإنسانية تفتقد اليوم تلك المنصّات الجريئة التي تُحوّل دراسة العمق السياسي، والفلسفي للتاريخ الإنساني المعاصر، إلى مذكرة ثقافية، يتداولها الجمهور الإنساني العام، في الغرب والعالم الإسلامي.
تقول للعالم إن الجزء الرئيسي من أسباب التخلف، وتمكّن الاستبداد، مصالح الغرب الأبيض، ليس كمنظور عنصري، أسقطه الإسلام مبكّرا، فكما أن لذوي السحنة السمراء حقوقا متساوية، فالبشرة البيضاء لا تستثنى من تساوي الحقوق وعدالة المشاعر، فهل نحن اليوم بحاجةٍ إلى العودة إلى مهمة الاستغراب الإسلامي، بالمفهوم الحضاري للفكرة الإسلامية، لا التيارات الدينية.
اليسار الشرقي والاستغراب الإسلامي.. المهمة المعطّلة
فمنذ توقيع الملكة إليزابيث الأولى، في ديسمبر/ كانون الأول 1600، مرسوم إنشاء شركة الهند الشرقية، ظلت كل مناطق الشرق تحت سلطات هذا المشروع الذي كان مجرّد غطاء لهيمنة التاج البريطاني الاستعمارية. ولسنا في صدد تفاصيل تاريخ الشعوب التي وقعت تحت النفوذ البريطاني السياسي المطلق، ولا معاناتها، وهناك جدلية في مقارنات الشرق للنمط الاستعماري.
كما أن هناك ترميزا خاصا للعقل الإنكليزي، بحيث أن الأقل دموية في تاريخ الحملات الغربية كان الاحتلال الإنكليزي، وكان، في الوقت نفسه، الأخطر في تفكيك قوة الشرق الفكرية والسياسية، من دون أن يُقلّل ذلك من أدواء الشرق المهلكة لذاته، عبر توحّش الاستبداد، والحرب على الإبداع الفكري الذي سعى إلى إيقاظ النهضة في أطرافه وأقطاره.
وهي مائدة حوار ونقد مزدوج، منذ حرّر المفكر اليساري المصري، أنور عبد الملك، مفصل المسألة في عنصرية الحضارة الغربية، وقراءتها الاستشراقية، مع التحفّظ على كل ما لا يعتبر حضارة، ويُدرج تحت هذا المصطلح الفضفاض، وتحديدا لعبد الملك، نقصد به فكرة الإيمان بأن مشروع النهضة المنصف للشرق لا يُمكن تنفيذه، وإيجاد أرضية وعي له، من دون أن
ومع طبيعة واقع الشرق، وإشكالية غياب الحُكم العادل المقاوم للاستعلاء الغربي، الفكري والسياسي، والذي تعرّضت له مصر في نماذج عدة، تنقلت رؤية أنور عبد الملك التي تصيب كل مفكر، حين يتنزّل على الأرض السياسية، وتبدأ النسبية في تقدير الموقف تضغط عليه، تحت ظلال الحروب والمشاريع الاستعمارية، والذي قد تكون سياسة المستبد القومي، وحربه حق الشعوب الديمقراطي، ونقصد بالقومي السلطة الحاكمة للأوطان لا الفكر، فهي أبرز عناصر تمكين القوة الغربية القهرية على الشرق، بسبب سياساته الدكتاتورية، ملكياً كان أو جمهورياً.
وأحسب أن وصف الناشط والمفكر اليساري المخضرم في حزب العمال البريطاني، بول هول بورو، وهو مناهض قوي للعنصرية، وأحد أبرز مؤسسي حركة مناهضة الحروب التي نشأت عند الحرب على العراق، وهو أكثر شخصية غربية، وجدتُ لديه حماسا وتشجيعا لفكرة البحث. فقال لي: سبب هذه الصعوبات التي تُحاصر الجهد الفكري المستقل أننا نعيش زمن رأسملة الثقافة، وأظنه بالفعل وصفا في غاية الدقة، وهي ظاهرة خطرة في علاقات المجتمعات والشعوب، بحيث يكون ترمومتر التواصل والعلاقات الإنسانية، ليس قائماً على خلاصات الفكر الإنساني، لوضع معايير المعرفة والحضارة الإنسانية، وإنما وفقا لقرار الرأسمالية النفعية.
تعطي هذه الدراسة المختصرة ضمن البحث القائم مقدّمة لمساحة الفراغ القائم، في وعي المهمة الفكرية للشرق التي شارك فيها المسلمون، وغيرهم من ديانات الشرق، وسؤال البحث عن مساحة العلاقة المستقلة، غير أنه يطرح هنا العودة إلى فكرة النقد الموضوعي لتحرير أرضية المشترك الحضاري، في جدل الشرق الداخلي، ومع حلفاء الفكرة اليساريين.
دلالات
مقالات أخرى
14 مايو 2024
30 ابريل 2024
23 ابريل 2024