لم يأتِ من الفراغ
وبسبب التجريف الذي حدث في المجتمعات العربية، عبر القرون الماضية، وتفريغها من حالتها المدنية، وتحويلها إلى فئاتٍ تتكئ على هوياتٍ ما دون هوية المواطنة بكثير، بحيث تتحوّل هذه الفئات في الأزمات الكبرى إلى مجموعاتٍ متصارعة، يخدم صراعها التحالف السياسي الديني، ويقف بوجه كل محاولات تأسيس المواطنة، ويُعيق أي تحرّكٍ كبير نحو تغييرٍ جذريٍ وشامل، وهو ما يجعل هذه المجتمعات تدور في حلقةٍ مفرغة، فالتغيير السياسي والاجتماعي الجذري يجب أن تسبقه حركةٌ تنويريةٌ تنتج ذاكرةً تراكميةً تنويريةً، يعوّل عليها في البناء في أثناء عملية التغيير الشعبي، على أن حركةً تنويريةً كهذه لن تسمح بها النظم الحاكمة، ففيها تهديدٌ مباشرٌ لمصالحها، ولوجودها كأنظمة حاكمة فعلية، وكبنية استبدادية متأصلة ومتشعبة التحالفات، وهو ما جعل نتائج كارثية لثوراتٍ عربية كارثيةً حتى الآن.
لا ينطبق هذا الأمر فقط على الدول التي قامت بها الثورات، بل يشمل كل المجتمعات العربية، ولعل ما حدث قبل أيام مع الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة على أثر نشر مقال لها في جريدة الغد الأردنية، تتحدث فيه عن غسل أدمغة الأطفال في المدارس بدءاً من الابتدائية وحتى الثانوية، بما يشبه غسيل الحركة الصهيونية أدمغة أولادها، والذي هو برأيها أحد الأسباب المباشرة لانتشار الفكر الداعشي في بلادنا، دليل على ذلك، فبعد نشرها المقال، تعرّضت الشاعرة لحملة شتائم وتكفير، وصلت إلى درجة تثير الغثيان من فرط تدنّي أخلاق القائمين على الحملة والمشاركين بها وانحطاطها. لم تقتصر الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل شملت مواقع عديدة، وشارك فيها كتابٌ معروفون. والمدهش أن الحملة، في أغلبها، لم تناقش ما ذكرته السيدة زليخة في مقالها، بل هي حملة شتائم وإساءات وتكفير، على اعتبار أن الكاتبة علمانية تهاجم الإسلام كدين. الأكثر مدعاةً للسخرية تسمية أحدهم الشاعرة زليخة أبو ريشة "نوال سعداوي الأردن"، وفي ظنه أنه يحط من قدر الشاعرة، غير منتبهٍ أنه بذلك يؤكد كل ما يطرحه التنويريون، وطارحو أسئلة الثقافة الدينية في مجتمعاتنا، أن الفكر الداعشي لم يأت من فراغ، وليس هو فقط وليد أنظمة الاستبداد والأجهزة المخابراتية، وإنما متأصّلٌ في عمق المجتمعات العربية الإسلامية ذات الثقافة الذكورية المنحازة للكراهية والمحرّضة ضد كل اختلاف، وضد كل استخدامٍ للعقل الذي يريده هؤلاء، ومن يقف خلفهم مغيباً وملغياً وعاجزاً عن طرح الأسئلة، وبالتالي، عاجزاً عن إيجاد الحلول للمشكلات المجتمعية العميقة، والتي يزيدها تجذّرا تحالف السياسة والدين.
قبل زليخة أبو ريشة، تعرض كثيرون لحملاتٍ مشابهة، شارك فيها إسلاميون من مختلف المذاهب، فالفكر الداعشي لا يقتصر على مذهبٍ وحيدٍ، بل هو ممتد ومتشعب، ويوحّد المذاهب المتناحرة، حين يتم المساس بأصله. جاء هدر دم سلمان رشدي إثر روايته "آيات شيطانية" من الإسلامين، الشيعي والسني. اغتيال مهدي عامل من تنظيم شيعي لم تعترض عليه المؤسسة السنية. جاء تكفير نصر حامد أبو زيد من الاثنين أيضاً. والحديث عن المؤسسات الدينية يعني أن تضع خلفها جماعاتٍ مهولة الأعداد، مستعدة حتى للقتل، إن طلبت منها المؤسسة هذا، فما بالك بالهجوم والشتائم والتكفير وتبرير حتى القتل.
الفكر الداعشي يعيش معنا، فلنعترف بهذا.