لم تنجح الثورة، ولا الثورة المضادّة ستنجح

01 نوفمبر 2018
+ الخط -
ولّدت الثورات العربية حكاماً جُدُداً، لا يحتاجون للمواربة أو التورية، إلا في شأن واحد، هو الدين. صحيحٌ أن بشار الأسد، وحده من بينهم، هو من سلالة عهد ما قبل الثورات. لكن نهجه التدميري تجاه سورية حوّله إلى بشار آخر. بحيث يمكنك التكلم عن بشار الأول، وبشار الثاني، والاسمان يعنيان الشخص نفسه. أما الاثنان الآخران، الأول قبل الثاني، فهما رئيس مصر الحالي عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان الذي يستأنس بولي عهد آخر، الشيخ محمد بن زايد. وبرنامج الثلاثة محاربة الإخوان المسلمين الذين فازوا بالرئاسة في أول انتخابات نزيهةٍ شهدتها مصر، بعيْد الثورة. وشعارهم المشترك، من بشار الثاني إلى محمد بن سلمان وعبد الفتاح السيسي، هو "محاربة الإرهاب"؛ والمقصود بالإرهاب الحريات. ويمكن وضع عملية اغتيال الكاتب السعودي، جمال خاشقجي، في خانة نقطة انطلاق المعركة بشأن الحريات في العربية السعودية، بصفتها واحدة من ارتدادات الثورات العربية.
ما المشترك بين هؤلاء الحكام الثلاثة؟ أولاً، أنهم في الوقت الذي يحاربون فيه الإرهاب الإسلامي، يتودّدون إلى المؤسسات الدينية والأفكار السلفية، مع هامشٍ أقل، في حالة محمد بن سلمان الذي لم يقطع مع الأيديولوجيا الوهابية، بكل الأحوال. ويحيلهم هذا التودّد إلى النموذج الأصلي، أنور السادات، الذي برع في تقديم شخصية "الرئيس المؤمن"، فأورثَنا مقلّدين له، يتمسّحون ببركاته. القوانين التي يطلع بها الرئيسان المصري والسوري، وكل صور علاقاتهما العامة، وما يرافقها من كلام، لا توحي بأنهما يسلكان طريق "التجديد الديني" الذي دعا إليه كل واحد منهما، في وقتٍ من الأوقات.
ولكن هذه ليست السمة المشتركة الوحيدة. ما يجمع الثلاثة أنهم أيضاً لم يعودوا يستحون من
 البطش. قبلهما، كان القمع مستوراً، مصنوعاً، تغطّيه ألف حيثيةٍ وحيثية، وإن كان غير منسجم مع أوتار المجتمع. اليوم، يكاد قمعهم لا يصدَّق، واغتيال جمال خاشقجي لا يلغي المقتلة الجماعية بحق الشعبين، السوري واليمني، ولا القوانين المصرية التي يتصاعد تشدّدها ضد الحريات والإعلام، فضلاً عن الإعدامات المتوالية بحق متَّهمين بـ"الإرهاب".
والثلاثة يقفون على رأس دولٍ فقدت قوتها، أو هيبتها الإقليمية، أو أنها آخذة بالفقدان. سورية تتنازعها جيوش العالم كله، والأعظم من بينها ينال حصّته منها؛ أي تحولت سورية من عملاق إقليمي إلى قزم محلي، يدير شؤونه كونسرتيوم من الدول الأخرى، الكبرى والمتوسطة. مصر، رائدة العالم العربي، انكمش دورها إلى وسيطٍ بين إسرائيل وغزة، تملي على الفلسطينيين إقفالاً وتعجيزاً وقساوة. أما السعودية فواقعة مباشرة تحت الإرادة الأميركية، يستطيع رئيسُها وإدارته أن يقررا بقاء حاكمها على عرشه أو إسقاطه منه، بذريعة جريمةٍ بلهاء ارتكبها. وما يضعفهم أكثر من ذلك، أنهم لا يملكون قاعدة شعبية، ولا شرعية، ولا برامج ولا نهجاً ولا أيديولوجيا. وإذا ما خطبوا، تهافتت كلماتهم، مثل قنديلٍ خلص كازُه. كلمات قريبة من العدم.
الآن، ما الذي يميّز حكامنا الثلاثة عن الذين سبقوهم؟ أي الذين حكموا قبل الثورات العربية؟ أي الذين استمدّوا كل شحنتهم الإيجابية من عصر ما بعد الاستقلال عن السلطنة العثمانية، وعن الاستعمار الأوروبي؟ ولماذا شحنة إيجابية أصلاً؟ المجتمعات التي نشأت بقوة دفع هذه الشحنة كانت منسجمة، أو تائقة إلى الانسجام، بعد توحّدها ضد الأجانب الذين حكموها. كانت مجتمعاتٍ متعلمة، أو ترنو إلى العلم، ومعه الصناعة والزراعة والإنتاج والموارد.. وجميعهم في خانة التقدّم الممكن. مناخ أقوى من الأفكار كان يعطي معنىً مستقبلياً لكل بادرة. والنساء، كيف كانت النساء؟ في السعودية خصوصاً، وصور السعوديات الشبيهة بالعربيات الأخريات من 
الزمن نفسه. والحكّام كانوا محبوبين، أصحاب آمال ومشاريع. ولكنهم تعثروا في طريقهم، لم يلبّوا برامجهم وخططهم، وتفاقم تأخّرهم والتحاقيتهم. وبقوا حكاماً على الرغم من ذلك. بقوة الدفع إياها، العائدة إلى ما بعد الاستقلالات. قوة دفع لا تخفّض من سلطة القمع، لكنها تجد له دائماً مبرّراً شرعياً له. هكذا استبدّوا باسم الدين والتنمية والقومية والإمبريالية وتحرير فلسطين، كلٌّ حسب نشأته وحاجاته الأيديولوجية. ثم جاءت الثورات، وحصل ما حصل. فلم تنتصر، بل هزمت شرّ هزيمة. والدليل على هزيمتها تلك النوعية الجديدة من الحكام. لا "حياء" ديموقراطياً عندهم مثل ما كان مع حسني مبارك، ولا منمّقات شامية حول التطور والإصلاح والانفتاح بما كان يرطن به بشار الأول، ولا وِقار الملك عبد الله، ولا حلمه، ولا سهره على النهضة التعليمية. فهل في وسع الحاكم الحالي للسعودية أن يستنكر مقتل جمال خاشقجي، أو غيره من أصحاب المواقف، السعوديين أو غير السعوديين، كما استنكر سلفه الملك عبد الله اغتيال رفيق الحريري عام 2005، بالقول "إن الجريمة لن تغتفر، وبأنها جريمة لصوصٍ وجريمةٌ لا أخلاقية"؟
انهزمت الثورات العربية بعدما قامت على حكام الاستبداد الأول، والدليل ما أخرجته إلى المسرح من حكام جُدد، حكام الاستبداد الثاني. ومن آيات فشل هذه القيادات ليس أنها سوف تسقط من الحكم، بل يمكن أن تستمر طويلاً، طالما أن رعاتها راضون. الفشل سوف يتبلور في فراغٍ تام، يكتسح معاني حكمهم، فيغيّبها، ويتصحّر المناخ، ويساعده بذلك الجفاف. فشلٌ يحارب فشلاً. فشل الثورة وفشل الثورة المضادة.