لماذا لا نُكرّس هذه الثقافة؟

09 مايو 2014
+ الخط -
قليلٌ من الناس من يجرد قيمَهُ ومواقفه، ويتسمّر أمام ضميره، في لحظة تأمل ليسأل: كم من الكرامة بقي له؟ ماذا أنفق من رشاوى، ولماذا ارتكب سرقات، وتورط في فساد؟ كم بذل من ماء وجهه، فجفّ وتجعدّ من كثرة التملق والتزلف و"هزّ الذنب"؟

قليلون من يجردون أحاسيسهم، فيحصون أخطاءهم، ويحاسبون أنفسهم. قليلون من كرّسوا المسؤولية الأخلاقية والأدبية، وثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ، وضربوا بها الأمثلة.
حدثان حصلا، أخيراً، جرّاني إلى الكتابة، ووددت أن أقف بهما، مع القارئ العزيز لنتساءل: لماذا يخزّ الضمير قلوب بعضهم فقط، ولا يدق في قلوب الآخرين؟

الأول: استقالة رئيس الوزراء الكوري الجنوبي، لمسؤوليته الأدبية والأخلاقية عن تقصير حكومي في التعامل مع حادث غرق العبارة الكورية، ومقتل مئات الأشخاص، واعتذاره علنًا عن ذلك. الثاني: استقالة مسؤول أسترالي رفيع المستوى، تحت ضغط نظام المساءلة.

الأول شونغ هونغ وون، قال: شعرت بأنني، كرئيس للوزراء، يجب أن أتحمل المسؤولية، وأستقيل، وأردت أن أستقيل قبل هذا، لكن الأولوية كانت لإدارة الوضع في الدولة. ورأيت أن المسؤولية تقتضي أن أقدم المساعدة، قبل أن أرحل. لكني قررت الاستقالة، الآن، لكي لا أكون عبئا على الحكومة.

الثاني باري أوفاريل، رئيس وزراء ولاية "نيو ساوث ويلز" الأسترالية، قدم استقالته من منصبه، بعد أن ظهرت معلومات عن تضليله المحققين، بشأن قبوله هدية، هي زجاجة نبيذ ثمنها 3000 دولار أسترالي، (2800 دولار أميركي تقريباً).

تذكرت مبادرة وزير الطاقة والتغيّر المناخي البريطاني، كريس هون، العام الماضي، إلى تقديم استقالته، والاعتذار أيضًا، للأسباب نفسها، بعد اكتشاف استخدامه اسم زوجته في مخالفة سرعة بحقه، هرباً من تعرّضه لعقوبة حظر قيادة السيارة. واتهمته النيابة العامة بحرف سير العدالة. وتذكرت استقالة وزير الدفاع، وليام فوكس، على خلفية فضيحة إساءة استخدام المنصب، وتمكين صديق مقرب منه من استغلال علاقته به، لتحقيق مكاسب شخصية.

عصرت ذاكرتي، وأنا أقرأ هذه الأخبار، علّني أهتدي، ولو على حادثة عربية مشابهة حصلت، أو قريبة من التي استقال على إثرها المسؤولون أعلاه، أو على الأقل اعتراف مسؤولٍ عربي بتقصيرٍ، اعتذر على إثره لشعبه مثلا؟  للأسف: لم أجد.

كل ما وجدته، وما جادت به الذاكرة، أن قراءتي النماذج الغربية تأتي في ظل زحمة تورم الفساد عربياً.

وتأتي، وقد تمادى المفسدون، في أوطاننا، في فضائحهم المالية والأخلاقية، وانتشر الفساد انتشار النار في الهشيم اليابس. أقرأ خبر استقالة رئيس الوزراء الكوري الجنوبي، فأتذكر انتحار وزير المالية في أثناء فترة رئاسة الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، بمجرد توجيه تهمة الفساد له، ليغسل هذا العار عنه. وقبل شهور، أُعلن عن انتحار مسؤول صيني كبير في سلطة الطيران المدني هناك، والصينيين يسجلون أرقاماً عالية في الانتحار ويتفننون فيه. وكثر هم الآسيويون، خصوصاً المسؤولين الحكوميين الذين آثروا الانتحار، على أن يتم فضحهم، أو محاسبتهم، جراء تهمة فساد أو خيانة، ولم يصابوا بوجع الضمير من تهمة الخيانة العظمى لأوطانهم ولوظائفهم. 

في بلداننا العربية، وليست كلها، ولكن، على خلاف ما حدث في أستراليا وكوريا الجنوبية، ثمة نماذج لمسؤولين تورطوا بالفساد حتى النخاع، ويتم اكتشافهم، وهم على رأس عملهم، وعندما تتم مواجهتهم، يدافعون عن موقفهم، ويبررون سياساتهم ليحافظوا على مواقعهم!

لا نطلب من وزرائنا، ومسؤولينا، أن ينتحروا، مثلما قد يفعل مسؤول صيني أو ياباني، فذلك حرام في العرف الإسلامي، ولن نبتهج لانتحار مسؤول فاسد، عقب شبهة فساد، أو حتى لفساد مزمن. ولكن، بالتأكيد، يفرح المواطن العربي، المغلوب على أمره، لو رأى مسؤولاً ملطخة يداه بالفساد، يقدم استقالته، ويعترف بأن ضميره أفاق أخيرًا، ويريد رد الأموال لأصحابها. لكن، هل فعلا سُجلت حالة من هذا النوع لمسؤول حكومي عربي، اعتذر للرأي العام، ولو بأثر رجعي، عقب شبهة فساد؟

كم تحتاج شعوبنا العربية من المحيط إلى الخليج، لتعرف من عاث فيها فسادًا، من سرقها، كيف ومتى ولماذا وأين؟ ولأنها تعرف حجم الفساد، فهي بحاجة إلى تقرير رسمي شجاع يعترف بإجمالي "المبالغ"، والسرقات التي تم السطو عليها، تحت شعارات أو مسميات التصحيح الاقتصادي، والتشغيل، والموارد، والاستثمارات، والتطوير والتنمية ومشاريع دعم الشباب والمرأة والديمقراطية والخطط التنموية.

ما نأمله أن يتعظ، ولو القليل من السارقين واللصوص والفاسدين العرب، من رئيسي الوزراء الكوري والاسترالي ووزير الطاقة البريطاني. ولا نريد أن نبالغ، ونقول من الصينيين أو اليابانين الذين إن اتهموا بالفساد انتحروا، خشية فضحهم ومحاسبة ضمائرهم. فمن دون أن تتكرس لدينا ثقافة الاعتذار، والاعتراف والمساءلة، سنبقى أفرادًا وشعوبًا وحكومات ندور في فلك التوهان والتخلف، ونبقى نندب حظنا، منقسمين على أنفسنا، بين متخم لا يبالي وفقير لا يغير، وجاهل لا يعرف وعارف لا يعمل، وعالم منظر وذكي منعزل وأغبياء مندهشين وفاسدين ينهشون من أوطاننا وأحلامنا ومستقبل أبنائنا، وتبقى الحصيلة خاسرة!
3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.