لماذا أصبح إرهابياً؟

11 يوليو 2015

سيف الدين الرزقي .. من شخصية غضة إلى قاتل

+ الخط -
قتل سيف الدين الرزقي (23 عاما) من قتل بدم بارد، وعكّر على سوسة صفوها، وأفسد على الزائرين المسالمين حلمهم بقضاء عطلة سعيدة في ربوع تونس الخضراء، وأعمل "الكلاش" في الناس في وضح النهار، واستعرض قوته على الأبرياء، وعلى أعوان الأمن الذين كانوا في غيبة كبرى، أو هم كانوا في قصر الدهشة. وانتهت المجزرة بعد فزع عارم دام 45 دقيقة، وجد الرزقي نفسه بعدها طريح الأرض، يتخبط في دمائه الفوارة النافرة. وإثر الحادثة مباشرة، انصرفت أجهزة الدولة الموقرة إلى تشديد القبضة الأمنية، وإلى استدعاء جيش الاحتياط وإغلاق 80 مسجدا منفلتا من عقال السلطة، والتلويح بمحاصرة جمعيات وأحزاب لا تمتثل إلى القانون. واكتمل المشهد بإعلان حالة الطوارئ، بما تحمله طيها من تحجير على الحريات العامة والخاصة، ومن مصادرة لأشكال الاحتجاج والتظاهر، ومن توسيع لصلاحيات السلطة التنفيذية على حساب حقوق المواطن.
وانخرط خبراء السلطة في التفسير والتعليل، وفي عد خلفيات تلك القرارات وغاياتها السنيّة. وبدا ترجيح المقاربة الأمنية في التعامل مع ظاهرة التطرف الحل الأمثل في نظر كثيرين، واتجه أغلبهم إلى المطالبة بالتسريع في التصديق على قانون مكافحة الإرهاب، وكأنه سفينة النجاة التي ستحمي التونسيين من غوائل المتشددين. وفي الأثناء، جدّ آخرون في الحديث عن التداعيات الاقتصادية للفاجعة، والخسائر الفادحة التي تكبدتها السياحة، مطالبين بإجراءات استثنائية موجعة، وباقتصاد حرب لدولة في "حالة حرب".
وفي المقابل، غاب عن المشهد الإعلامي والسياسي سؤال مركزي تثيره الحادثة، ويُستدعى للإجابة عنه في الدول المتقدمة علماء النفس وعلماء الاجتماع والحقوقيون، والسؤال المسكوت عنه هو: لماذا أصبح الرزقي إرهابيا؟
وأنا أقرأ سيرة الفتى، اعتراني شعور بالذهول، فكيف لشاب في مقتبل العمر أن يضحي بحياته، وأن يجهز على عشرات الأبرياء الذين لم يمسوه بضرّ؟ كيف لطالب ماجستير متألق (اختصاص الإلكترونيات والكهروتقنية) أن يصبح لقمة سائغة في يد المتطرفين؟ لماذا تحول الرزقي من شاب يعشق الرقص والموسيقى إلى شاب يعشق سفك الدماء؟ لماذا انتقل الفتى من محب للحياة إلى عدو للحياة؟ وبعد هذا وقبله، من المسؤول عن تلك الصيرورة القاتلة؟
الناظر في بروفايل سيف الدين الرزقي يتبين أننا إزاء شاب يافع من مواليد 1992،عاش سحابة عمره في منطقة طرفية من مناطق الظل من محافظة سليانة، وانتمى إلى أسرة محدودة الدخل، تكفلت بإعاشته ودراسته، على الرغم من ظروفها المادية الصعبة. وأمضى الفتى قرابة عقدين من عمره في عصر الدولة القامعة على عهد زين العابدين بن علي، زمن كان التصحر الثقافي والسياسي والديني غالباً على البلاد، وكان الالتزام الديني والانتظام الحركي محظورين، يؤدي بصاحبه إلى مهواة الهلاك. والظاهر أن الرزقي انصرف في تلك الفترة إلى التحصيل العلمي، واكتفى من الترفيه بعشق الرقص (هيب هوب/ بريك دانس)، والموسيقى في منطقة مهمشة تقل فيها أسباب الترويح عن النفس ووسائل التثقيف، وتفتقر إلى المرافق العمومية الأساسية. فعاش الفتى مثل غيره من شباب مناطق الظل حالة من الفراغ الروحي، والفكري، وحالة من البؤس المادي والثقافي سنين، حتى جاء عصر الثورة، بشعاراته الواعدة وحماسته الزائدة، وعنفوانه اللافت، فاغتنم فرصة وجوده في القيروان لمواصلة مشواره الدراسي الجامعي، لينخرط في المجال العام، لا من بابه الواسع، بل من بابه الضيق، فارتمى في أحضان التيار السلفي الجهادي، ممثلا في تنظيم أنصار الشريعة، وشهد مؤتمره الاستعراضي/ الدعوي الأول في القيروان (مايو/أيار 2011) الذي حضره مع آلاف المريدين والمستقطبين الجدد من الشباب الذين وجدوا في خطاب دعاة السلفية خطابا يروي ظمأهم إلى الدين، ويُشبع اندفاعهم إلى التحرر من إسار الخوف، ومن سنين القمع، ومن سطوة السلطة، ويصور لهم الديمقراطية كفراً، والعلمانية إلحاداً، ويغريهم باستعادة الماضي الإسلامي "التليد"، والتعالي به عن النقد، ويصور لهم الجهاد قتل المخالف في الدين، جسر عبور إلى جنات النعيم.

تعلق قلب الفتى بخطب أبي عياض التونسي، وأبي بكر البغدادي، وبفتاوى شيوخ السلفية المتشددين، وبعمليات داعش الشرسة، المنتشرة في وسائل الاتصال على اختلافها. وغدا الفتى يرى كلام الشيخ كلاما مقدسا، يقتضي التنفيذ لا التعديل، وغدا يرى الانتماء إلى التنظيم عقيدة لا تطوعاً، والفتك بالمخالف واجباً مقدسا، وضرورة ملحة "لإعلاء كلمة الله وإقامة دولة الخلافة". وتحولت بذلك شخصية الرزقي الغضة المرنة إلى شخصية صلبة متشددة، وتحولت حماسة الشباب عنده إلى عنف مقدس، وانقلبت روح الدعابة عنده إلى جديّة صارمة تعشق الإقصاء والتدمير، واكتسح الفراغ الروحي/الديني الكامن فيه فكر تكفيري متشدد، يلغى الآخر ويدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
تم ذلك كله في غيبة الدولة والأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني، وفي ظل استقالة النخبة المثقفة. فالدولة لم تقم بدورها المطلوب في الإحاطة بالشباب، والعمل على صوغ استراتيجية لإنقاذه من براثن البطالة والفقر والإحساس باليأس والاتجاه صوب التطرف. ولا تكاد ترى الدولة في المناطق الطرفية والداخلية المهمشة حاضرة، إلا في مراكز الشرطة والثكنات العسكرية، وفروع التجمع الدستوري المنحل القديمة. وبعد الثورة، استمر أصحاب القرار في تجاهل الشباب وتحييدهم عن المواقع السيادية، وتولى قيادة البلاد شيوخ بلغوا من العمر عتيا. واستمر تهميش المناطق المحرومة من التنمية والتشغيل، فتركت لمصيرها بلا ثقافة، وبلا مشاريع تنموية، وبلا مرافق ضرورية (مستشفيات، جامعات، مراكز إيواء...) فما بالك بدور الثقافة والمكتبات وفضاءات الترفيه. أما الأحزاب فنشاطها في تلك المناطق التي نشأ فيها الرزقي، وغيره من المهمشين، موسمي مرتبط بالبحث عن أصوات المؤيدين من استحقاق انتخابي إلى آخر، وهو نشاط يبيع الأوهام والوعود الكاذبة إلى مواطنين مقهورين. والأمر غير مختلف كثيراً مع الجمعيات المدنية والمنظمات الأهلية التي تجمع الأموال وتدخرها، وتغدقها لصالح المشرفين عليها، ولا تضطلع بدور فاعل في تنوير الناس، وتحصين الشباب من التطرف بنشر الثقافة المدنية وترسيخ السلوك المدني.
أما المثقفون فأغلبهم يتابع المشهد من برجه العاجي، وفي أحسن الأحوال، تجدهم ميالين إلى معالجة التطرف الديني بتطرف علماني، ومقابلة الإقصاء بالإقصاء، غير آبهين بضرورة تقديم قراءة تفهمية/انتربولوجية للظاهرة، منصرفين إلى جلد الماضي، وإصدار الأحكام الذاتية والمعيارية، مشجعين، من حين إلى آخر، سياسات الاستئصال وتجفيف الينابيع، مرجحين المقاربة الأمنية على المقاربة الثقافية/ الحضارية الشاملة في مواجهة التحدي الجهادي.
من هنا، قامت الفجوة بين المواطن والدولة، وبينه وبين المثقف، فامتدت داعش في فراغنا، والتحق الرزقي وغيره من الشباب بتنظيم الدولة الإسلامية.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.