لغز نِك آدمز

01 يونيو 2015
هيمنغواي مع ابنه غريغوري، أكتوبر 1941 (تصوير: روبرت كابا)
+ الخط -

مات نِك آدمز منتحراً باطلاق النار على رأسه، عبر الفم، من بندقية. وأحسب أنه اختار هذه الطريقة لأن رأسه لم يعد صديقاً له، فأراد التخلص منه. ليس رأسه، على وجه التحديد. ولكنه كان يريد أن يطلق النار على كل تلك الأفكار التي تجول فيه، وأولها فكرة الانتحار نفسها!

وأسوأ تلك الأفكار قادمة من سيرة آخرين عايشهم وأثروا به.

ولكن من المبكر، دائماً، الحديث عن الأفكار القادمة من "الآخرين" طالما أن عقل نيك آدمز نفسه كان مصنعاً للهواجس، ومنها الكثير مما يصعب العيش معه، ولا سيما أن محاولته للتحرر من أثر أمه، كان يدعه، بوعي ودون وعي، إلى أن يكرر والده.

ابتداءً، تخرج والد نِك آدمز طبيباً في نهايات القرن الثامن عشر، وساح لوقت بعد ذلك في أنحاء أوروبا؛ ثم عاد ليبدأ مهنته في عيادته ويتزوج ويفتح بيت زوجية في منزل والد زوجته.

وهذا يشبه نِك آدمز الابن، ناقصاً الزواج لمرة واحدة ومهنة الطب، التي هرب منها.

وكان مشهوراً عن الطبيب آدمز أنه يحب التجوال والصيد، ومال إلى التحنيط واقتناء مجموعات من الحشرات والأسماك. وأخذته أخلاقه التي لا ترتاح للسردية الغربية، والأميركية على وجه الخصوص، إلى إقامة علاقات فضولية مع قبائل الهنود الحمر.

وهذا، كذلك، يشبه نِك آدمز الابن على نحو مدهش.

ويتضح أن نِك آدمز الابن كان يرتبط بعلاقات جيدة مع جده. والأهم أن علاقته بجده هي استمرار لعلاقته الوثيقة بأبيه، الذي تعلق به، وأحب مرافقته، وتعلق مثله بالأعمال اليدوية. بل أنه لاحقاً أطلق ذقته كما كان فعل والده. بل وربما يكون انتحر مستخدماً البندقية ذاتها التي استخدمها والده في انتحاره.

ولكن موقف نِك آدمز الابن سيختلف كثيراً حينما سنتحدث عن أمه.

كانت امرأة شديدة المراس، تمارس هواية الرسم وتعطي دروساً في البيانو. وتعتقد أنها صاحبة موهبة نادرة في الغناء الأوبرالي. وحينما تزوجت تخلت عن هواياتها، وتفرغت لزواجها وأولادها..

كان قلب الأم غريس، التي حظيت بابن تبعته ثلاث بنات، يرتجف خشيةً على وحيدها؛ لذا، فإنها درءاً للحظ السيء والعين الحاسدة، اعتادت أن تلبس وحيدها في صغره فستان أخته الأصغر، وتجعله يقوم بأعمال نسائية برفقتها، كالتطريز والخياطة..

وجاء وقت، اكتشفت فيه الأم غريس أن الزواج لا يغني عن الموسيقى والرسم، ولا يستحق التضحية بـ"مستقبلها" الباهر في عالم الغناء الأوبرالي، فندمت كثيراً على ذلك، وبدأت تُذكر زوجها بتضحيتها بمناسبة ودون مناسبة.

ومن المؤكد أن هذه الملامة المستمرة تشكل توضيحاً لحقيقة أن والد نِك آدامز كان يصرف وقته في التجوال في الطبيعة والصيد، والأرجح أن هواه هذا، كان نأياً بنفسه عن وضع أسري لا يلبي طموحاته؛ وتؤكد على ذلك حقيقة أن المشادات العائلية كانت متكررة بين الوالدين، وكان الوالد يضطر على استياء إلى مداراة زوجته والتراجع أمامها، لأن تلك المشادات كانت تجري أمام الأطفال.

وفي مرحلة ما، وصل الأمر بين الزوجين إلى انفصال ملحوظ؛ كانا يأخذان اجازتهما السنوية منفصلين، فيترك أحدهما المنزل ويأخذ معه واحداً أو جزءاً من الأطفال (نِك آدمز مع حالة الوالد)، ويبقى الآخر في البيت مع البقية، ثم بعودة الأول يأخذ الآخر إجازته ويصطحب معه من بقي من الأطفال.

وهذا واحد من أسرار علاقة نِك أدامز الوثيقة بوالده، وكرهه لوالدته، وملامته الطويلة لها على علاقتها السيئة بأبيه. وحينما انتحر والده، لم يتردد في اتهامها بأنها السبب وراء انتحاره، وبقي يوجه لها هذا الاتهام طوال حياته، ولم يكن يتردد في الإشارة إليها مستخدماً كلمات نابية مقذعة.

ولم تكن هذه مشكلة نِك آدمز الوحيدة.

كان لديه سوى ذلك من مشاكل أنه استوعب جاك لندن جيداً، ولكنه شعر أن معادلة جاك لندن الحرجة التي تفرض على الإنسان أن يقرر، هنا والآن، من هو وما هي حقيقته الفعلية (إنسان أم حيوان) متعسفة، وأن علاقة الإنسان بالطبيعة وبغريزته هي صراع مستمر، وليست قراراً "ثورياً" يمكن أن يتخذه أحد ما، في لحظة ومكان معينين.

ومشكلة نِك آدمز الأخرى المتممة أنه اكتشف أن حالة عزرا باوند ليست زلة موهبة عبقرية، بل صندوق باندورا انفتح فامتلأ رأسه بالأفكار المفاجئة والأسئلة، التي لا تنتهي. ومنها ما يمس الالتباسات العائلية التي تعامل معها عمره كله وفق أحكامه القطعية حولها، ومنها ما يتعلق به هو نفسه كإنسان وكاتب.

ومشكلته أنه أدرك أن باوند، لا هو، كان ملتزماً بفكرة الصراع المستمر إلى نهاية حياته، ولو من موقف خاطئ. وأنه هو، نفسه، نِك آدمز، لم يكن يتعامل مع الصراع إلا وصفه رياضة ذكورية. وأنه هو كان يميل إلى الخيال في مهنة الكاتب. وأن الخيال في مهنة الكاتب يعادل الذكاء من جهة، ولكنه يشكل من جهة أخرى، عتبة للإنزلاق إلى الكذب..

الكذب في الكتابة، الذي يجر إلى العيش مع سيرة كاذبة في الحياة..

ويعرف نِك آدمز أن الكاذبين، سواء كانوا بشراً منخرطين في الحياة أو كتاب مبدعين، لا ينتصرون ولا يسجلون مأثرة في الصراع، ولكنهم مجرد ينجحون في تجارتهم: الكذب!

وهذا ما كان يقلقه حول نفسه، وجدير أن يقلق كل كاتب.

وهنا، لا يبقى إلا أن نُذكِّر أن اسم "نِك" إذا ما أضفنا له مفردة "نيم" بمجموع "نك نيم" فإن ذلك سيعني في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية "اسم مستعار"، وإذا ما أضفنا "آدمز" الذي هو جمع لاسم أبو البشرية (آدم زوج حواء)، فإن ذلك يعطى هذا الاسم معنى محدداً مقصوداً، هو "واحد ما من البشر"..

وهنا، عليّ أن أكشف أنني طوال الوقت كنت أتحدث عن إرنست هيمنغواي الذي اختلق شخصية "نِك آدمز" وجعلها بطلاً لما يزيد عن عشرين من قصصه، جمعت بعد عشر سنين من وفاته في كتاب بعنوان "قصص نيك آدمز"..

"نِك آدمز" هو إرنست هيمنغواي نفسه!

قراءة "قصص نِك آدمز" ربما تتيح لنا أن نتعرف على هيمنغواي الذي لا نعرفه تماماً، ويمكننا من رؤية كيف يروي هو حياته وطفولته، وأي سبيل اختار لتنقية سيرته مما يكره، وما الذي أبقاه فيها من أشياء يكرهها، ولا تسره عن نفسه، ولماذا؟

وهذا يعيدنا إلى عزرا باوند، واضطراره للتعايش مع حقيقة أن ما يحبه في نفسه لا يحظى بقبول الآخرين، وأن ما يحبه فيه الآخرون ليس هو أول ما يرضاه عن نفسه. بينما هو، إرنست هيمنغواي، لم يقوّ على مواجهة ذلك.

عموماً، هل قلت أن القصاصين هم أهم الكتّاب، وهم أفضل ما في الروائيين المهمين!؟ وهل قلت أنني أقدر هيمنغواي القاص وأدبه حق قدرهما، وأعرف مكانة الرجل وما خطت يداه..!؟

إذن، عليّ أن أقول ذلك، يوماً ما. يوماً ما!

* كاتب من الأردن

المساهمون