08 نوفمبر 2024
لعنة التقارير في المغرب
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
يشهد المغرب ارتفاعا في وتيرة صدور التقارير المحذرة من خطورة الأوضاع، أغلبها عن مؤسسات رسمية (المندوبية السامية للتخطيط، المجلس الأعلى للحسابات، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤسسة الوسيط..)، ما وضع أصحاب سيمفونية "العام زين" في موقف حرج؛ فهذه هيئات وطنية، لا يمكن وصفها بالانحياز أو القول إنها متحاملة وفاقدة للموضوعية، كما هي عادتهم عند صدور هذه التقارير عن منظمات دولية؛ حكومية أو غير حكومية، بشأن المغرب.
أدرك صناع القرار في المغرب، أخيرا، أن الحديث إلى المواطنين بخطاب السلطة (لغة الخشب) في تقارير هذه الهيئات، المفروض فيها البقاء على مسافة أمان عن باقي المؤسسات الرسمية بنص الدستور، لن يحجب حقائق الواقع الذي أضحى، في معظم الأحيان، متجاوزا هذه التقارير. ومن ناحية أخرى، يسيء إلى سمعة وهيبة ومصداقية مؤسسات أنزلها دستور 2011 منزلة خاصة، ومنحها صلاحيات استثنائية، في سابقةٍ من نوعها في تاريخ إصلاح المؤسسات في المغرب.
وجد المغاربة أنفسهم أمام لغة جديدة، في تقارير هذه الهيئات في الآونة الأخيرة، مثل: تقرير الثروة الإجمالية وتقرير نظام الوظيفة العمومية والتقرير الخاص بمنظومة التقاعد...، فهي أقرب ما تكون إلى وثائق ناطقة بلسان قوى سياسية معارضة، منها إلى تقارير صادرة عن مؤسسات رسمية تابعة للسلطة التي تحرص غاية الحرص على انتقاء أبناء "دار المخزن" وخدامه الأوفياء، عند تعيين من يتولون إدارة شؤونها.
يفسَّر هذا التحول النوعي في مضامين التقارير من خطاب الإشادة والثناء إلى لغة العتاب
والنقد، الذي يصل إلى حد الجلد أحيانا، بمسايرة هذه الهيئات التغير الذي شهدته خطب المؤسسة الملكية. فلا يكاد عام يمضي منذ 2011 من دون أن تضيف هذه المؤسسة إلى أرشيفها خطبة نقدية أو أكثر لقطاع حيوي أو مجال استراتيجي أو سياسة العمومية، بدءا بالتعليم في خطاب 20 أغسطس/ آب 2012، والعدالة بعده بسنة في المناسبة نفسها، فالإدارة في خطاب 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 في البرلمان، وصولا إلى الإعلان عن إفلاس المشهد السياسي في خطاب العرش ليوم 29 يوليو/ تموز 2017.
لا بد من الإقرار بأن السعي إلى القطيعة مع لغة الخشب، في تقارير هذه المؤسسات، نقطة تحسب لصالح الماسكين بزمام الأمور في المغرب، لأنها، وفق الصيغة الجديدة، تُشخص الوضع بدقة على الأقل، وتكشف ما يعتريه من تناقضات. زيادة على ذلك، ترفع من مصداقيتها لدى المنظمات الدولية التي تجد، في ما يصدر من مستندات عن تلك الهيئات، معطيات أقرب إلى الواقع، يمكن اعتمادها وثائق مرجعية قصد إعداد تقاريرها الخاصة، ما ينعكس في المحصلة على صورة النموذج المغربي في الخارج.
لكن سؤالا يبقى معلقا: ماذا بعد التشخيص والنقد؟ فالمغاربة يدركون غاية الإدراك حقيقة ما يجري في بلدهم، وليسوا بحاجة لهذا التقرير أو ذاك، ليخبرهم بواقع ما يعيشونه يوميا، بقدر ما هم بحاجة إلى من يتفاعل إيجابيا مع ما يرد في التقارير، ويترجم مضامينها على أرض الواقع، أملا في تحقيق التغيير المنشود. ومهما تكن الحقائق في هذه التقارير والنتائج التي تتوصل إليها، وما تخرج به من توصيات واقتراحات، فمآلها لن يخرج عن واحد من ثلاثة سيناريوهات: تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق، طبقا لمقتضيات الفصل 67 من الدستور، كما حدث مع التقرير المتعلق بأنظمة التقاعد، أو بالتقرير الخاص ببرنامج التنمية المجالية لإقليم الحسيمة منارة المتوسط؛ ترجمة التوصيات إلى مشروع قانون، يتم دفنه في دهاليز المؤسسة التشريعية، على غرار ما وقع مع توصيات تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، أو تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؛ الاكتفاء باستحضار هذه التقارير مقدمات استهلالية في الوثائق الحكومية، والاستناد إلى ما فيها من توصيات لتبرير بعض السياسات في القطاعات، موضوع التقرير، مثل ما حدث مع تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشأن مبادرة وطنية مندمجة لفائدة الشباب (إقرار التجنيد الإجباري)، أو تقرير المندوبية السامية للتخطيط حول الملاءمة بين التكوين والتشغيل في المغرب (توسيع نطاق التعاقد في الوظيفة العمومية).
غياب المتابعة وتفعيل مسطرة المحاسبة تبقى الحلقة المفقودة في هذه التقارير، فمهما تكن الحقائق التي تكشف عنها، يظل المعنيون بها في منأى عن أي متابعة قضائية، ففي أسوأ الحالات لا تتعدى عقوبة من ثبت تقصيرهم، أو تورطهم بحسب الحالات، مجرد إعفاء من المهام، من دون أي إجراء قضائي، قصد تفعيل المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة.
توجه السلطة نحو رفع منسوب النقد في لغتها أو تقاريرها، رسمية أو شبه رسمية، سوف يبقى في مجمله مجرد تكتيك للتنفيس السياسي على المستوى الداخلي، والاستهلاك الإعلامي الموجه إلى الخارج، ما لم تتبعه إجراءات عملية تؤسس للقطيعة مع ممارسات دار المخزن، وتعمل على إرساء مبادئ دولة الحق والقانون، وتفعيل ما جاء به دستور 2011 من مقتضيات، كإقرار مبدأ الكفاءة عند تولي المسؤولية، والاحتكام إلى قواعد الحكامة والشفافية... في تدبير الشأن العام.
أدرك صناع القرار في المغرب، أخيرا، أن الحديث إلى المواطنين بخطاب السلطة (لغة الخشب) في تقارير هذه الهيئات، المفروض فيها البقاء على مسافة أمان عن باقي المؤسسات الرسمية بنص الدستور، لن يحجب حقائق الواقع الذي أضحى، في معظم الأحيان، متجاوزا هذه التقارير. ومن ناحية أخرى، يسيء إلى سمعة وهيبة ومصداقية مؤسسات أنزلها دستور 2011 منزلة خاصة، ومنحها صلاحيات استثنائية، في سابقةٍ من نوعها في تاريخ إصلاح المؤسسات في المغرب.
وجد المغاربة أنفسهم أمام لغة جديدة، في تقارير هذه الهيئات في الآونة الأخيرة، مثل: تقرير الثروة الإجمالية وتقرير نظام الوظيفة العمومية والتقرير الخاص بمنظومة التقاعد...، فهي أقرب ما تكون إلى وثائق ناطقة بلسان قوى سياسية معارضة، منها إلى تقارير صادرة عن مؤسسات رسمية تابعة للسلطة التي تحرص غاية الحرص على انتقاء أبناء "دار المخزن" وخدامه الأوفياء، عند تعيين من يتولون إدارة شؤونها.
يفسَّر هذا التحول النوعي في مضامين التقارير من خطاب الإشادة والثناء إلى لغة العتاب
لا بد من الإقرار بأن السعي إلى القطيعة مع لغة الخشب، في تقارير هذه المؤسسات، نقطة تحسب لصالح الماسكين بزمام الأمور في المغرب، لأنها، وفق الصيغة الجديدة، تُشخص الوضع بدقة على الأقل، وتكشف ما يعتريه من تناقضات. زيادة على ذلك، ترفع من مصداقيتها لدى المنظمات الدولية التي تجد، في ما يصدر من مستندات عن تلك الهيئات، معطيات أقرب إلى الواقع، يمكن اعتمادها وثائق مرجعية قصد إعداد تقاريرها الخاصة، ما ينعكس في المحصلة على صورة النموذج المغربي في الخارج.
لكن سؤالا يبقى معلقا: ماذا بعد التشخيص والنقد؟ فالمغاربة يدركون غاية الإدراك حقيقة ما يجري في بلدهم، وليسوا بحاجة لهذا التقرير أو ذاك، ليخبرهم بواقع ما يعيشونه يوميا، بقدر ما هم بحاجة إلى من يتفاعل إيجابيا مع ما يرد في التقارير، ويترجم مضامينها على أرض الواقع، أملا في تحقيق التغيير المنشود. ومهما تكن الحقائق في هذه التقارير والنتائج التي تتوصل إليها، وما تخرج به من توصيات واقتراحات، فمآلها لن يخرج عن واحد من ثلاثة سيناريوهات: تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق، طبقا لمقتضيات الفصل 67 من الدستور، كما حدث مع التقرير المتعلق بأنظمة التقاعد، أو بالتقرير الخاص ببرنامج التنمية المجالية لإقليم الحسيمة منارة المتوسط؛ ترجمة التوصيات إلى مشروع قانون، يتم دفنه في دهاليز المؤسسة التشريعية، على غرار ما وقع مع توصيات تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، أو تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؛ الاكتفاء باستحضار هذه التقارير مقدمات استهلالية في الوثائق الحكومية، والاستناد إلى ما فيها من توصيات لتبرير بعض السياسات في القطاعات، موضوع التقرير، مثل ما حدث مع تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشأن مبادرة وطنية مندمجة لفائدة الشباب (إقرار التجنيد الإجباري)، أو تقرير المندوبية السامية للتخطيط حول الملاءمة بين التكوين والتشغيل في المغرب (توسيع نطاق التعاقد في الوظيفة العمومية).
غياب المتابعة وتفعيل مسطرة المحاسبة تبقى الحلقة المفقودة في هذه التقارير، فمهما تكن الحقائق التي تكشف عنها، يظل المعنيون بها في منأى عن أي متابعة قضائية، ففي أسوأ الحالات لا تتعدى عقوبة من ثبت تقصيرهم، أو تورطهم بحسب الحالات، مجرد إعفاء من المهام، من دون أي إجراء قضائي، قصد تفعيل المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة.
توجه السلطة نحو رفع منسوب النقد في لغتها أو تقاريرها، رسمية أو شبه رسمية، سوف يبقى في مجمله مجرد تكتيك للتنفيس السياسي على المستوى الداخلي، والاستهلاك الإعلامي الموجه إلى الخارج، ما لم تتبعه إجراءات عملية تؤسس للقطيعة مع ممارسات دار المخزن، وتعمل على إرساء مبادئ دولة الحق والقانون، وتفعيل ما جاء به دستور 2011 من مقتضيات، كإقرار مبدأ الكفاءة عند تولي المسؤولية، والاحتكام إلى قواعد الحكامة والشفافية... في تدبير الشأن العام.
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024