لعبة طهران وواشنطن

13 مايو 2019
+ الخط -
"أريدهم أن يكونوا أقوياء وعظماء، وأن يمتلكوا اقتصاداً عظيماً، ولكن عليهم الاتصال، وإذا فعلوا فنحن جاهزون للتفاوض معهم"... ربما قليلون فقط يمكنهم تصديق أن هذه الكلمات جاءت على لسان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي تبنّى سياسة هجومية ومواقف حادة تجاه طهران منذ دخوله البيت الأبيض، بل إنها كانت جزءاً من حملته الانتخابية. لكنها ليست المرة الأولى التي يغيّر فيها ترامب مواقفه، وتتناقض كلماته وتصرفاته، فقد جاء هذا الغزل المفاجئ في توقيت شديد الحرج والتأزم بين الجانبين، بعد أن تفاقم التوتر إلى تحريك قطع بحرية أميركية باتجاه الخليج، واحتدمت الحرب النفسية إلى مرحلة إطلاق تصريحات نارية وتهديدات صريحة. بل إن ترامب في التصريحات نفسها التي غازل فيها إيران لم ينف احتمال انفجار الموقف واندلاع مواجهة مسلحة معها!
على الجانب المقابل، لا تقل المواقف الرسمية الصادرة من طهران اندفاعاً وتحدّياً وتناقضاً، عن نظيرتها الأميركية، فقد بلغ التحدي بكبار مسؤولي الحرس الثوري ووزارة الدفاع الإيرانية إلى وصف التهديدات الأميركية بأنها جوفاء، وأن الإدارة الأميركية عاجزة عن مواجهة طهران. وقد مثلت هذه التصريحات الاستفزازية قمة التصعيد من طهران، بعد أن سبقتها سلسلة تحذيرات لواشنطن من محاولة إضعاف الاقتصاد الإيراني وخنقه. خصوصاً، بعد أن أعلنت إدارة ترامب صراحة أنها تسعى إلى "تصفير" صادرات النفط الإيرانية.
وكما جمعت مواقف واشنطن بين النقيضين، التهديد والتهدئة، فإن إيران أيضاً زاوجت بين التحدّي والتغاضي، فقد تغافل وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، عن اندفاعات ترامب ولهجته العدائية، بل رفع عنه مسؤولية التصعيد والتوتر مع طهران. وقال إن "ترامب لا يريد مواجهة عسكرية مع بلاده، لكن بعض المحيطين به هم من يدفعونه إلى الحرب".
نحن، إذاً، أمام حالةٍ من الشد والجذب وحرب الأعصاب. أو، بعبارة أكثر وضوحاً، هي سياسة عض الأصابع بين الطرفين. ومن المفارقات أن كليهما يجيدانها بامتياز، فالإيرانيون أصحاب نفس طويل وصبر غير محدود في السياسة، كما في غزل السجاد، وهم أيضاً التجار رجال "البازار" الذين يجيدون المقايضة والتفاوض. أما ترامب، فهو رجل الصفقات والضغط على الخصوم وابتزاز الحلفاء، ليس بالضرورة لتفجير العلاقات وخوض معارك وحروب. بل، على الأرجح، للحصول على أعلى مكاسب وتنازلات منهم، بأقل تكلفة أميركية ممكنة، فبينما كان ترامب يكيل الاتهامات للروس وللإيرانيين، بسبب وجودهم في سورية، إذا به يقرّر خروج القوات الأميركية من هناك ليتقاسماها إلى حد التنازع على النفوذ السياسي والقواعد العسكرية والإعمار الاقتصادي. وبعد أن وصل التراشق إلى قمة التوتر مع كوريا الشمالية إلى حد التهديد باستخدام الزر النووي، دخل فجأة في مسار تفاوضي، وعقد أكثر من قمة مع نظيره كيم. وهو نفسه، ترامب، الذي يهدّد الصين، ويرفع التعريفة الجمركية على بضائعها، فيما يعقد مفاوضات تجارية معها، ويعلن رسمياً تفاؤله بالتوصل إلى اتفاق عادل ومرضٍ.
أما إيران، فقد كانت في الثمانينيات تعادي "الشيطان الأكبر"، وترفع شعار "الموت لأمريكا".. في وقت تلقّت أسلحة أميركية بوساطة إسرائيلية. ثم نسقت مع واشنطن ضد العراق مرتين، في مطلع التسعينيات، وتم ضرب العراق وكسر قوته العسكرية، ثم في الألفية الجديدة، حيث جرى احتلال العراق نفسه وتفكيك جيشه.
التأزم الشديد الحاصل بين طهران وواشنطن ليس تناقض مصالح، ولا تضارب سياسات، بل مجرد تنافس بين تاجريْن على تقسيم الحصص وتوزيع النسب في المكاسب والعوائد، فلا طهران تملك محاربة واشنطن، ولا الأخيرة تريد ذلك. بل على العكس، تدرك إيران جيداً أهمية تحييد واشنطن وإسرائيل، وخطورة استعدائهما. كما أن استمرار الفزاعة الإيرانية يحقق لواشنطن وتل أبيب مكاسب إقليمية أعلى كثيراً من محاربتها وكسر شوكتها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.