بعد أن أنهت سنتها الأخيرة في الجامعة، صار بمقدورها أن تحتفظ بفرصتها أن تبقى وحيدة داخل الغرفة. ومع مرور الوقت صارت متشبثة أكثر بجدرانها، بالرائحة المنبعثة من اختلاط التواريخ وتعدد الأنفاس، غرفة صغيرة وحزينة بمصباح ضوء أصفر يشي بالحزن والتعاسة، مع هذا لم تكن هنالك أشياء أكثر خطورة من ذلك الضوء على حياتها، ربما الكتب، لكنها أيضاً لم تختر كتباً سيئةً إلى ذلك الحد. عندما دخلتُ إلى الغرفة وعلمتُ مسبقاً أنها لم تغادرها منذ زمن طويل، أخذتُ أفتشُ عن أي شيءٍ كان السبب، أي شيء مدّها بكل تلك الطاقة البشعة.
أتعرف ماذا وجدت هناك يا مصطفى؟
لا شيء سوى تلك الكرة الطينية، وأصابع قد غرفت نصف الوجه. لم أتصوّر في حياتي أن أحداً ما قادر على أن يهزم نفسه بهذه الطريقة، لقد غرزت أصابعها في وجهها كما لو أنها غرزتها في كرة من الطين، لم نجد حولها سوى هاتفها المحمول. كان قد وضع على حالة التسجيل إلى لحظة دخولي الغرفة، أعدت تشغيل الصوت بينما كنتُ أدور حول الجثة وأسمع ما تخبرني به.
بصوتٍ يثيرُ الهلع سمعتها تقول: "في البداية كانت مشكلتي مع الظلام، كنتُ أتساءل: بعدما تبتلع عيناي العتمة وتنقلها إلى الداخل، هل ستمكث في رأسي أم تتسرّب إلى هوة الجسد وتضيع هناك؟ لأنني وبصراحة أشعر بثقلها حين أتمايل برأسي وعندما أنظرُ إلى السقف أيضاً أتحسّس ذلك الثقل وهو ينزاح من مقدمة الرأس إلى أسفله، ولم تتوقف مشاكلي إلى هذا الحد، فقد تطوّر الأمر معي حينما كنت أرى وجهي على أحد جدران الغرفة، وجه منقوش على كتلة من الطين الرمادية، تكرر ظهور هذا الوجه تباعاً، حتى صرت أراه أكثر فأكثر، كنتُ أرتعش وأتصدّع وأنطوي على نفسي وأشعر بالخوف الشديد، ومع الوقت صارت أعداد الوجوه تكثر، وتظهر في أماكن مختلفة، في ثقوب الجدار مرة، وعلى شقوق الإسمنت المصقول، وفي قبضة باب الخزانة، يدور مع ريشة مروحة الهواء، وبسبب الإحراج كنت أخشى إخبار والدي بخوفي هذا عندما يزورني ليلاً ليطفئ الضوء، تحسباً لأي زيادة مفاجئة في فاتورة الكهرباء، حاولت مراتٍ عدة أن أحكي له، لكن كيف يمكنني أن أقنع أحداً بذلك الوجه الطيني، في الظلام ومع تكاثف تلك الوجوه حولي، صرت أخشى أن يلمسني أحدهم، لم أتخيل كيف سيكون الأمر سيئاً لو حاولت لمس تلك الكرة الرطبة؟
إلى أي حد سيكون ذلك سيئاً؟ إلا أن ضوء الفجر أنقذني في ذلك اليوم، تلاشت كل تلك الوجوه عند الضوء، ولكن بعد يومين تعرّضت لمسٍّ مباشر وحقيقي من أنف أحد الوجوه، كان طرياً ولزجاً جداً، حتى أنه ترك أثراً على وجهي، لطخة من الطين اللزج، حاولتُ أن أزيله بمسحه بكفي، بخرطه بأصابعي، أو أن أستعمل قطعة قماش، لكنه لم يكن شيئاً قابلاً للإزالة، كان يذوب في وجهي، ويختلط مع الدم والجلد، فكرت أن أسلخ ذلك المخاط الطيني بشيء حاد، أردت التخلّص منه قبل أن يذيب وجهي بالكامل، مسحته بكرة من أسلاك النحاس، وتخلصت من كتلة اللحم والطين، لكنني اليوم تعرضت للطخة أخرى كبيرة كانت تكوّراً لعدة وجوه، كتلة لزجة وطرية، كرة كونية حزينة التصقت في وجهي، وذابت كأنها سقطت في حوض تيزاب، صرت برأس طينية متعددة الوجوه، ما أخافني فعلاً هذه المرة أن كل وجه من تلك الوجوه كان يخشى الظلام ويواجه عدداً كبيراً من الوجوه أيضاً، وإن وجهاً منها كنت أعتقد بأنه كان حقيقياً أكثر من غيره سقط إلى الأسفل.
انفلت إلى جوف جسمي عبر البلعوم، لذا وحتى لا تنتهي القصة على أنها انتحار عادي، قرّرت أن أبرئكم وأبرّئ نفسي أيضاً، قبل أن أدخل يدي إلى جوفي لألتقط ذلك الوجه".
- أتعرف يا مصطفى ما زاد الرعب في قلبي وأفزعني إلى اليوم، أنها في تسجيل الصوت وفي لحظة الانتحار لم أسمع لها صوت صرخة أو حشرجة، ولم تكن خائفة أيضاً. كل شيء حدث بسرعة.
طقخخخ طقخخخ كان الصوت هكذا طقخخخ
إنه صوت تحطيم العظام، لقد أدخلت يدها عبر خدها الأيسر إلى أن ثقبت عظام الوجه لتستقر هناك. كيف حدث ذلك كيف لإصبع أن يخرم عظام الفكين؟ ومن ذلك اليوم لم أعد أختلي بنفسي في الغرفة ولا أفكر في إطفاء الضوء.
* كاتب من العراق