عرف المشهد الثقافي في لبنان هذا العام، تعدّدية على صعيد المؤتمرات السوسيوثقافية أكثر من التظاهرات الإبداعية المألوفة، فيما استمرت المعارض التشكيلية بغثها وسمينها. وإجمالاً، يمكن القول إن العام بمجمله خلا من تظاهرة تشكيلية فارقة نقف عندها. أما المسرح فعرف انطلاقة تظاهرتين جديدتين، دون أن ينطبق ذلك على الموسيقى أو الأدب، إذ كان الأخير هو الأقل حظاً هذا العام، فلم تُعقد ندوات أدبية أو فكرية أساسية، وليس بعيداً عن الصحة القول إن المدينة خلت تقريباً من الأمسيات الشعرية وحضور الشعراء لبنانيين وعرب.
على صعيد آخر، تراجع الحضور الثقافي للفنانين السوريين بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، بعد أن عرفت بيروت هجرة مسرحيين وموسيقيين وتشكيليين إليها من دمشق مع اندلاع أحداث عام 2011، غير أن معظم هؤلاء انطلقوا في موجة هجرة ثانية إلى أوروبا، فقلّت حفلات الفرق الموسيقية السورية التي درجت في السنوات السابقة، وكذلك هو حال التشكيل والمسرح، وقد يكون عرض "الاعتراف" الذي أعدّ نصه وائل قدّور وأخرجه عبد الله الكفري من أبرز الأعمال السورية المسرحية التي قدمت في بيروت هذه السنة.
من جهة أخرى، كان لافتاً تنظيم العديد من المؤتمرات التي تجمع الثقافي بالاجتماعي والسياسي والتي يتوقع استكمالها وأخذها إلى آفاق أخرى في العام المقبل، وهذه أقامتها جامعات ومراكز أبحاث، ويغلب عليها تاريخ الحروب في المنطقة ومعضلات ما بعد الحرب. من ذلك المؤتمر الذي نظمته "الجامعة اللبنانية الأميركية" بعنوان "إعادة البناء ما بعد الحرب: دروس من أوروبا"، وركز على استعادة تجربة المدن الأوروبية التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية، ومقارنتها بما عرفته المدن العربية مؤخراً.
كما أقيم "المؤتمر الدولي لتعافي مدن ما بعد الصراع" وشارك فيه أكاديميون من لبنان وسورية وفلسطين والعراق وتركيا وإيطاليا والصين وإسبانيا والنمسا، وتناول العوامل الحاسمة لإعادة الإعمار في المدن التي عاشت صراعات مختلفة من الحروب إلى الحروب الأهلية.
في السياق نفسه، أقيم المؤتمر الدولي "إعادة إعمار أحياء الحرب" الذي نظّمه "المعهد الألماني للأبحاث الشرقية"، وجرت مناقشة مسألة إعادة الإعمار بعد الحرب وعلاقة الفنانين والمعماريين ومخطّطي المدن بهذه العملية. كما أقيمت محاضرة بعنوان "28 سنة على إنتهاء الحرب: كيف نواجه إرث العنف السياسي في لبنان؟" للأكاديمية كارمن حسون أبو جودة، في "رواق بيروت"، تناولت فيها سؤال إمكانية تجنّب الحرب، ثم بحثت في مرحلة ما بعد الحرب، والمتمثلة في الإفلات من العقاب في جرائم الحرب، وقانون العفو وفقدان الذاكرة، وغياب المصالحة الوطنية، وعدم تدريس تاريخ الحرب في المدارس، ومصير المفقودين.
وبمناسبة مرور سبعين عاماً على النكبة، أقامت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" تظاهرة بعنوان "النكبة.. على طريق العودة" تضمّنت محاضرات، وعروض أفلام، ومعرضاً يضم أرشيف المؤسسة منذ تأسيسها عام 1963، ويشتمل عشرة آلاف صورة منها مجموعة "متحف الحرب البريطاني"، وأخرى من "الأونروا"، وهي تؤرخ باللقطات لحظات اللجوء الأولى إلى جانب أرشيف منظمة التحرير ومجموعة المصوّر الأميركي إريك مدسون.
عدد كبير من فعاليات 2018، كانت موزّعة بين "متحف سرسق" و"دار النمر للفن والثقافة"، حيث اهتم الأول بتقديم مشهد من الفن المعاصر اللبناني والأوروبي وقلما التفت إلى العربي، بينما اكترثت الثانية بشكل خاص بتقديم الثقافة الفلسطينية المعاصرة. من ذلك عرض سلسلة من أفلام الفنانة الفلسطينية لاريسا صنصور، ومحاضرة للمعمارية صبا عنّاب بعنوان "عودات زائلة: الراديكالية، الشاعرية، واليوطوبية"، تناولت المشروع الذي عملت عنّاب عليه، مع الأونروا، حول كيفية إعادة إعمار مخيم نهر البارد في شمال لبنان. كما نظمت "النمر" معرض المصوّر التشيكي جوزيف كوديلكا، حيث كان محور الأعمال في هذا المعرض جدار الفصل العنصري في فلسطين والحرب الأهلية في لبنان. وأصدرت الدار طبعة جديدة من موسوعة "بلادنا فلسطين" للمؤرخ والكاتب الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ بتقديم من المؤرخ وليد الخالدي، تتكوّن من 11 مجلداً.
بدورها، برمجت جمعية "أشكال ألوان" فعاليات قليلة لكنها نوعية، لا سيما أن الجمعية تحتفي هذه السنة بمرور 25 عاماً على تأسيسها، فأقامت معرضاً جماعياً ضم أعمال فنانين شاركوها مغامرتها وكانوا جزءاً منها. كما أقامت محاضرات لافتة من بينها "إعادة البناء المديني للمساحة في العصر المملوكي" للباحثة هويدا الحارثي، ومحاضرة الفنان أكرم زعتري بعنوان "ضد الصورة"، تحدّث الفنان فيها عن تجربته في "مؤسسة الصورة العربية" متزامناً مع معرضه في "غاليري صفير زملر" في بيروت بعنوان "النافذة الثالثة" والذي تناول فيه أرشيف المؤسسة وكيفية الاشتغال على ذاكرة الصورة فيها.
أما "مؤسسة الصورة العربية"، فأطلقت هذا العام كتاباً وثائقياً يضم مجموعة صور فوتوغرافية نادرة لأعمال المعماري العراقي رفعت الجادرجي التقطها بنفسه، وتوثق لتاريخ من عمارة بغداد الحديثة.
في ما يتعلق بالتطبيع وقضاياه، فقد تعرضت "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان" إلى انتقادات مختلفة بسبب إطلاقها تهمة التطبيع دون تقصٍ كافٍ على عدد من الموسيقيين العرب، من بينهم زياد سحاب وفيروز كراوية مما اضطرها إلى تقديم بيان شبه اعتذاري وتوضيحي.
بالمقابل نجحت الحملة في إيقاف عرض فيلم "عزيزي الديكتاتور" في صالات لبنان بسبب مشاركة الممثلة الإسرائيلية أوديا راش، غير أن الفيلم اختفى فترة ثم عاد إلى دور العرض من جديد، ما يشير إلى الخفة التي يجري بها التعامل مع مواقف الحملة.
من جهة أخرى، اعتصم طلاب "الجامعة الأميركية" في بيروت ضد إلقاء الأكاديمي البريطاني جيف ماكماهان، الذي يعمل مستشاراً لقسم الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس المحتلة وهي محاضرة موضوعها "إعادة النظر في أخلاقيات الحرب"، رافضين أي نوع من التطبيع الأكاديميّ مع إسرائيل.
من التظاهرات التي عرفت دورتها الأولى في 2018، هي "مهرجان الحكاية والموسيقى" والذي تناول التراث اللامادي لكلّ من مصر وبلاد الشام، و"مهرجان لبنان الوطني للمسرح" بتنظيم من "الهيئة العربية للمسرح" ووزارة الثقافة اللبنانية، لتنضمّ بيروت بذلك إلى جوقة مهرجانات الهيئة التي تفتقر إلى التأثير والمذاق في مختلف العواصم العربية ويغلب عليها طابع رسمي يخلو من روح التنافس الخلاق. وبمبادرة من "مسرح المدينة" نُظمت النسخة الأولى من "مهرجان المسرح الأوروبي" وشملت عروضاً من الدانمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة.
خلال هذا العام، فقدت الثقافة العربية الروائية إميلي نصر الله (1931 - 2018) في آذار/ مارس الماضي، وقد أعلنت عائلتها تحويل بيتها الطيني القديم في قرية الكفير بجنوب لبنان، إلى مكان مخصّص لإقامة الفنانين وأصبح اسمه "بيت طيور أيلول". كما رحل الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني الفرنسي نبيل الأظن (1948 - 2018) بعد صراع مع المرض في أحد مستشفيات أفينيون، وكان يستعد لتقديم مسرحية "يوليوس قيصر" عن نص شكسبير في شباط/ فبراير المقبل مع مجموعة من طلبة المسرح في بيروت، كذلك رحل شاعر المحكية موريس عواد (1934 - 2018).
من التظاهرات المعمارية البارزة معرض "أطوار العمران" الذي أقيم في طرابلس بتنظيم من "بيروت متحف الفن/ بيما" ومنصة "ستوديوكور آرت"، وتضمّن 18 مشروعاً لفنانين من لبنان والمكسيك استوحي من علاقة الزمن باندثار الحضارات وأطوار العمران. ونظم "المركز العربي للعمارة" أسبوع بيروت للتصميم، والذي تناولت ندواته ومعارضه ثلاثة محاور أساسية وهي الأماكن المهجورة، والمساحات العامة، والحفاظ على التراث. هذه الثيمات كانت شاغلاً أيضاً لمعظم أنشطة "سرسق"، من أبرزها معرضان؛ الأول بعنوان "مساكن مهجورة كشف أجهزة" لـ غريغوري بجاقجيان، والثاني "قصة شجرة الكاوتشوك" لـ عبد القادري.
في هذا الصدد، شهدت شوارع المدينة جولات نظمها معماريون ومتخصّصون في التخطيط العمراني تحت عنوان "المدينة ورأس المال" بهدف استقصاء التغيير المستقبلي المتوقع للمدينة من حيث هجرات السكان الداخلية فيها، والتحولات الطبقية المجحفة التي تشهدها، وفي السياق نفسه أقيمت سلسلة محاضرات حول "المشهد السكني في راس بيروت" الذي يشهد عمليات تهجير شبه ممنهجة من خلال سياسات إخلاء المستأجرين الجديدة.
كما استعادت فضاءات بيروت الثقافية شخصيات تجاهلها الأرشيف أيضاً، منها الكاتب المسرحي كيفورك كساريان من خلال معرض "حكاية الرجل الذي سكن ظله" الذي أقيم في "ستشين بيروت"، وتوقفت "الجامعة الأميركية" عند تجربة المفسر والمؤرخ برهان الدين البقاعي (1406 - 1480).
أما على صعيد الموسيقى، فكانت أهم التظاهرات على المستوى الثقافي، وليس الترفيهي التجاري، متعلقة بالموسيقى الكلاسيكية بشكل أساسي، فكانت الدورة الرابعة من "مهرجان ملاعب لموسيقى الحجرة"، والدورة الرابعة من "موسم موسيقى الحجرة" التي نظمتها "جامعة أنطونين"، و"مهرجان البستان للموسيقى الكلاسيكية" الذي احتفل هذا العام بيوبيله الذهبي، ورغم أهمية المهرجان لكنه كان نخبوياً بالمعنى الطبقي، إذ وصل سعر التذكرة فيه إلى مئة دولار تقريباً.