لبنان في ظلال المافيا

08 أكتوبر 2018
+ الخط -
يظهر شريط فيديو في لبنان عن تعنيف شخصٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة. رجل مكتمل المواصفات الأهلية والقانونية والعقلية ينهال بالضرب على شابٍّ يُفترض أنه محميٌ قانوناً. لا يستسلم الرجل، بل يضرب من دون الاكتراث بمن يصوّره على الهاتف الخليوي. يبدو هذا الشخص وكأنه مدرك سلفاً أن لا قانون سيُطبّق ضده، أو أنه مدعومٌ سياسياً من فريقٍ ما. ربما قد تتحرّك الدولة، وربما قد تُعالج الأمور بصورة قانونية، وربما حتى قد يُفرج عنه من دون محاسبة. وبعد، يظهر تقرير وينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن مياهٍ مبتذلة، مليئة بالبراز البشري، يستحم بها ويشربها ويستخدمها سكانٌ في بيروت. يتحرّك المواطنون، يقطعون الطرق، ويشعلون الدواليب احتجاجاً على "تلوث المياه". إذاً، المياه ملوثةٌ، فنلوث الهواء احتجاجاً. كل شيء مسكونٌ في دائرة الجنون المطلق في لبنان.
ثم، في لبنان مشكلة كهربائية مزمنة، متوارثة منذ انتهاء الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، لم ينجح أي فريقٍ سياسيٍّ في معالجتها، ما دفع كثيرين إلى تركيب مولّدات خاصة في مختلف المناطق اللبنانية، وتتم الجباية منها شهرياً. هنا أصبح اللبناني يدفع فاتورتي كهرباء، إحداهما للدولة والثانية لصاحب المولد الكهربائي في منطقته. تقرّر الدولة تركيب عدّاداتٍ لتحديد الجباية من أصحاب المولدات. يستنكر هؤلاء ويقرّرون الاعتراض تحت طائلة "قطع الكهرباء عن المواطنين". إذاً، الجنون مكتمل الأوصاف. الدولة لا تنجح في تأمين الكهرباء، ولا في مكافحة الجباية الغالية من أصحاب المولدات، ولا تنجح في السيطرة عليهم.
ثلاثة ملفات في الأسبوع الأخير من الحياة اللبنانية تشرح تماماً ماهية الوضع المزري الذي يعيشه اللبنانيون في بلادهم، ومدى قدرة هذا الوضع على تدجينهم، ومنع عقلهم من التفكير في أكثر من تأمين الكهرباء والمياه والحقوق الإنسانية. أما السؤال عن كيفية معالجة ذلك كله؟ حقيقة، إن "البهدلة" اليومية للمواطن اللبناني تنبع منه أساساً، لإيمانه المطلق بالزعامات الطائفية ـ السياسية. وحين تطرح المشكلة لا يتم النظر إليها على أنها اجتماعية أو حقوقية عامة تطاول الجميع، بل إلى أنها "تستهدف فريقاً سياسياً محدّداً".
حسناً، ماذا فعلوا جميعهم، من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية، وغيرهم من السابقين في السلطة؟ لا شيء. جميعهم يفتقدون الحيلة في التعامل مع الوضع الحالي، لأن أي معالجةٍ جذريةٍ لأي مشكلةٍ اجتماعيةٍ أو حقوقية ستؤدي إلى تدهور قوتهم واضمحلالهم مع الوقت. يسعون دوماً إلى طمس الحقائق عبر الضغط على الناس، وإلزامهم بالعيش في الكذب والخوف الطوائفي. لنكن منطقيين، ماذا يريد المسلم والمسيحي في لبنان؟ الإنسان تحديداً، لا هؤلاء الذين يعيشون في ظلال الزعماء والأحزاب ويتماهون معهم؟ يريد فقط أن يستيقظ صباحاً، وأن تكون المياه نظيفة، والكهرباء مؤمّنة، والطبابة متوفرة، والتعليم جيدا، والغذاء نظيفا. هل يريدون أكثر من ذلك؟ ربما الطموح إلى تحقيق الأهداف الشخصية غير المتعارضة مع تطلعات المجتمع ونموّه. بالتالي، هل ستسمح الأحزاب بذلك؟ طبعاً لا، لأن تحرّر الإنسان في لبنان يقضي على وجودهم، لذلك يرغبون في بقائه فقيراً، ومعدماً، وغير قادر على الإنتاج الفكري والجسدي، سوى لخدمتهم وخدمة حساباتهم في المصارف.
هذه المافيا التي تحكمنا تتلطّى خلف شعار واحد "لا أحد سمح لي بالعمل لتطوير المجتمع". إذاً من هو "الذي لا يسمح لك"؟ ألا يحمل اسماً؟ دلّ عليه، وأقنعنا بأنك تريد محاربة الفساد وتطوير المجتمع. بالطبع، ليس هناك من أحد لاتهامه، لكنّ المحازبين والأنصار ينساقون سريعاً إلى حروب التخوين، فترتاح السلطة على قاعدة "محاربتكم بعضكم بعضا تعني استمراريتنا". جميعهم يخرجون ويقولون إن "من يحمّل المسؤولية للجميع هو مخطئ". حسناً، التجارب لا تشجع، لأن "جميعهم" يعملون وبقوة على تدمير من بقي واعيا في لبنان، إلى حدّ تكفيره وقمعه.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".