10 نوفمبر 2024
لا صورة تجمعني بك
في زيارتي، أخيراً، إلى بيروت، تجرأت واقتربت من تمثال سمير قصير لأول مرة منذ اغتياله بأيدٍ "ممانعة" و"مقاومة" تلطخت بدماء تقدميين حقيقيين كثيرين، لم يقبلوا بسطوتها وسرقتها المجال العام والمال العام والخاص والقرار السياسي. أحد عشر عاماً مضت على غيابه، ولم أجرؤ على هذه الخطوة. فمنذ أن أعلمتني صديقة هاتفيا يوم 2 يونيو/ حزيران 2005 بخبر اغتياله، وأنا في حالةٍ من شبه نكران الأمر الجلل. وقد حاولت دائماً أن أختبئ وراء حالةٍ سيكولوجيةٍ تربط الموضوع بمساحات التهيؤ والكوابيس.
بالتأكيد، كان من الصعب أن أقبل بتصديق أمرٍ كهذا وقع وتأكّد، فالتخلي عن الأمل باستعادة الحوارات النادرة، ولكن الغنية التي جمعتنا في بيروت كان قاسياً للغاية. كما أنني، وقبل اللقاء به شخصياً، كنت قد التقيت به فكرياً، بحيث أنني تعلّقت بكتاباته، منذ عملت على دراسة الإعلام العربي المهاجر إلى فرنسا، ومن خلال نصوصٍ غنية في عدة منابر، أثراها بمقالاتٍ مزجت العمق المعرفي كما الصياغة سهلة المنال.
كان سمير يُحبّذ استعادة عبارات عبد الرحمن الكواكبي فيما يرتبط بالاستبداد وطبائعه ومواجهته، مؤكّداً دائماً على أن فيها إلهاماً مستمراً لكل العاملين في الشأن العام، خصوصاً ذاك المرتبط بموضوعة الحريات. وقد كان هو أول من أشار إلى صعوبة إعادة نشر بعض ما ورد فيها في القرن العشرين، في ظلال زيزفون الطغيان والشمولية التي جدّدت أدواتها، في حين كان ممكناً تداول هذه النصوص نسبياً، في ظل حكم الرجل المريض عبد الحميد، واستبداد السلطنة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر. وانطلاقاً من هذا المشترك، تقاسمنا حلماً في أن يتمكّن من زيارتي في حلب، مدينة الكواكبي، وأن نتجوّل في حواريها القديمة، ونتنقل بين مواقع يمكن لنا أن نتخيّل، أو نخترع بالأحرى، علاقتها الحميمة بمن أحببنا من مرجعياتها الثقافية والفكرية المُغيّبة والمُعتّم عليها ممن أسس للتصحّر الثقافي، وللظلامية المستنبطة من عقليةٍ أمنوقراطيةٍ نجحت في استقطاب بعضٍ من حديثي الثقافة فيها وضحلي المعرفة. حلمٌ لم يتحقق للأسف لمّا كانت سلطات الاستبداد تضمر لسمير من إقصاء ومعاداة.
بعد أحد عشر عاماً، بدأت تقبّل الأمر والخروج من حالة النفي الوقائي. وقرّرت إذاً أن أجلس إلى تمثاله، ولو قليلاً، بعد كل هذا الفراق. فاقتربت من الرجل الباسم الجالس تحت شجرة وارفة الظل، متأملاً سطح ماءٍ راكدة الوسط متحركة الجوانب، يحتويها مستطيل جميل الهدوء. شعرت وكأنني أعبر لحظات أول موعد مهمٍ في حياتي، مهنياً وعاطفياً وإنسانياً. ما جعل البداية تتمخّض عن مرورٍ سريعٍ التفت من خلاله عبر ومضة خاطفة. وبعد أن وصلت إلى الطرف الآخر من الحديقة الصغيرة، بدأ سعيي ومحاولتي للالتفاف والعودة إلى عين المكان، حتى أُكثر من التأمل، أو على الأقل، حتى أتوقف لحظةً أمامه. فتكرّر المرور السريع وكأنني كنت أخاف شيئاً لا أعرف ما هو. كنت متأكداً من أن أحداً ما يراقبني، ولو لم يكن هذا الأحد موجوداً، وحدّثتني نفسي عن خطر انبثاق الشك في حركاتي المتوترة غير الطبيعية، ولأنقذ الموقف، وأجد حلاً لهذه الحالة غير القابلة للتفسير، قرّرت أن أتوجه إلى التمثال بحركة سريعةٍ، وأجلس إلى جانبه.
هل سعيت إلى مخاطبته؟ أم أنني اكتفيت بأمان ظلّه؟ هل ابتسمت لابتسامته؟ أم أنني أدمعت
العينين حزناً على غيابه؟ هل حدّثته عن ثورةٍ سوريةٍ طالما تمناها؟ أم أنني اكتفيت بسرد تحولاتها والعنف الذي طغى على حمولتها؟ هل سردتُ له حال اللاجئين السوريين في بلدهم "الثاني" لبنان؟ أم ناجيْته بسردياتٍ متناقضةٍ عن مآلات الحَراك الاحتجاجي العربي الذي طالما أغناه بتحليلاتٍ تأسيسية؟ هل حدثته عن قاتليه ومسارات تبرئتهم من دم المُخلِّص البسّام؟ أم عن الذين ادّعوا وصلاً بفكره يوماً، وما أراهم إلا منقلبين نفعياً أو وصولياً إلى ضفافٍ نتنةٍ، تحمل مزيجاً من دماء الأبرياء وأموال الفقراء وحقوق الأحرار؟
لم أفعل شيئاً من هذا، ضممت ذراعيّ إلى نفسي وكأنني ضممته إليها وصمتت. استعدت رسالةً قصيرة خطّها لي بعد عودته من زيارة صديق مشترك، وافته المنية في ألمانيا، يدعوني، من خلال استحضار كلمات الراحل الصديق وتعلّقه ببلدينا، إلى أن أهتم بصحتي، وأن "أشد الهمة، لأننا نعيش ربع الساعة الأخير قبل الحرية". استدعاني، على إثر هذه الرسالة، المحقق الذي وقع علي مراسلتنا بقدرة العسس، وسألني عمّا قصده "الداعي" بقوله هذا وعما إذا كان "يُحضّر لأمرٍ ما" (...). ثم استقام في مقعده الوثير الذي ربما حشيت وسادته بشعر المعتقلين، وسألني عن رأيي بمن اغتاله. دخلت في حالة صمتٍ مؤلم، لكنه استحثني بتهذيبٍ نادر على أن أُجيب، فقلت له إن من قتل سمير قصير قد أسدى أكبر خدمة لإسرائيل. فانفرجت أساريره، وكاد أن يسقط من على عرشه اغتباطاً قائلاً "إنها إسرائيل إذاً". فتداركته معترضاً وقلت لا، بل خدّامها. فالتفت إلى كاتب المحضر مؤكداً على استنتاجه العظيم.
تركت التمثال من دون أن ألتقط صورة معه، فليس لدي صورة مع سمير الحي، لكي تجمعني بتمثاله صورة جامدة. صورته متحركة ومتقدة في مخيلتي أحافظ عليها بكل ما أوتيت من دفء ووفاء.
بالتأكيد، كان من الصعب أن أقبل بتصديق أمرٍ كهذا وقع وتأكّد، فالتخلي عن الأمل باستعادة الحوارات النادرة، ولكن الغنية التي جمعتنا في بيروت كان قاسياً للغاية. كما أنني، وقبل اللقاء به شخصياً، كنت قد التقيت به فكرياً، بحيث أنني تعلّقت بكتاباته، منذ عملت على دراسة الإعلام العربي المهاجر إلى فرنسا، ومن خلال نصوصٍ غنية في عدة منابر، أثراها بمقالاتٍ مزجت العمق المعرفي كما الصياغة سهلة المنال.
كان سمير يُحبّذ استعادة عبارات عبد الرحمن الكواكبي فيما يرتبط بالاستبداد وطبائعه ومواجهته، مؤكّداً دائماً على أن فيها إلهاماً مستمراً لكل العاملين في الشأن العام، خصوصاً ذاك المرتبط بموضوعة الحريات. وقد كان هو أول من أشار إلى صعوبة إعادة نشر بعض ما ورد فيها في القرن العشرين، في ظلال زيزفون الطغيان والشمولية التي جدّدت أدواتها، في حين كان ممكناً تداول هذه النصوص نسبياً، في ظل حكم الرجل المريض عبد الحميد، واستبداد السلطنة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر. وانطلاقاً من هذا المشترك، تقاسمنا حلماً في أن يتمكّن من زيارتي في حلب، مدينة الكواكبي، وأن نتجوّل في حواريها القديمة، ونتنقل بين مواقع يمكن لنا أن نتخيّل، أو نخترع بالأحرى، علاقتها الحميمة بمن أحببنا من مرجعياتها الثقافية والفكرية المُغيّبة والمُعتّم عليها ممن أسس للتصحّر الثقافي، وللظلامية المستنبطة من عقليةٍ أمنوقراطيةٍ نجحت في استقطاب بعضٍ من حديثي الثقافة فيها وضحلي المعرفة. حلمٌ لم يتحقق للأسف لمّا كانت سلطات الاستبداد تضمر لسمير من إقصاء ومعاداة.
بعد أحد عشر عاماً، بدأت تقبّل الأمر والخروج من حالة النفي الوقائي. وقرّرت إذاً أن أجلس إلى تمثاله، ولو قليلاً، بعد كل هذا الفراق. فاقتربت من الرجل الباسم الجالس تحت شجرة وارفة الظل، متأملاً سطح ماءٍ راكدة الوسط متحركة الجوانب، يحتويها مستطيل جميل الهدوء. شعرت وكأنني أعبر لحظات أول موعد مهمٍ في حياتي، مهنياً وعاطفياً وإنسانياً. ما جعل البداية تتمخّض عن مرورٍ سريعٍ التفت من خلاله عبر ومضة خاطفة. وبعد أن وصلت إلى الطرف الآخر من الحديقة الصغيرة، بدأ سعيي ومحاولتي للالتفاف والعودة إلى عين المكان، حتى أُكثر من التأمل، أو على الأقل، حتى أتوقف لحظةً أمامه. فتكرّر المرور السريع وكأنني كنت أخاف شيئاً لا أعرف ما هو. كنت متأكداً من أن أحداً ما يراقبني، ولو لم يكن هذا الأحد موجوداً، وحدّثتني نفسي عن خطر انبثاق الشك في حركاتي المتوترة غير الطبيعية، ولأنقذ الموقف، وأجد حلاً لهذه الحالة غير القابلة للتفسير، قرّرت أن أتوجه إلى التمثال بحركة سريعةٍ، وأجلس إلى جانبه.
هل سعيت إلى مخاطبته؟ أم أنني اكتفيت بأمان ظلّه؟ هل ابتسمت لابتسامته؟ أم أنني أدمعت
لم أفعل شيئاً من هذا، ضممت ذراعيّ إلى نفسي وكأنني ضممته إليها وصمتت. استعدت رسالةً قصيرة خطّها لي بعد عودته من زيارة صديق مشترك، وافته المنية في ألمانيا، يدعوني، من خلال استحضار كلمات الراحل الصديق وتعلّقه ببلدينا، إلى أن أهتم بصحتي، وأن "أشد الهمة، لأننا نعيش ربع الساعة الأخير قبل الحرية". استدعاني، على إثر هذه الرسالة، المحقق الذي وقع علي مراسلتنا بقدرة العسس، وسألني عمّا قصده "الداعي" بقوله هذا وعما إذا كان "يُحضّر لأمرٍ ما" (...). ثم استقام في مقعده الوثير الذي ربما حشيت وسادته بشعر المعتقلين، وسألني عن رأيي بمن اغتاله. دخلت في حالة صمتٍ مؤلم، لكنه استحثني بتهذيبٍ نادر على أن أُجيب، فقلت له إن من قتل سمير قصير قد أسدى أكبر خدمة لإسرائيل. فانفرجت أساريره، وكاد أن يسقط من على عرشه اغتباطاً قائلاً "إنها إسرائيل إذاً". فتداركته معترضاً وقلت لا، بل خدّامها. فالتفت إلى كاتب المحضر مؤكداً على استنتاجه العظيم.
تركت التمثال من دون أن ألتقط صورة معه، فليس لدي صورة مع سمير الحي، لكي تجمعني بتمثاله صورة جامدة. صورته متحركة ومتقدة في مخيلتي أحافظ عليها بكل ما أوتيت من دفء ووفاء.