لا شيءَ أخلاقياً أكثر من الحبّ

08 ديسمبر 2014
الخوف يمنع الحياة، وهي حية (فرانس برس)
+ الخط -

كانت تقف أمام المرآة. ترتدي بدلة رقص زرقاء أحضرها لها والداها من مصر، وترقص. كان مصطفى قمر هو الحاضر دائماً في وصلاتها. تقفل باب الغرفة، تبقي صوت الموسيقى منخفضاً، تتخايل نفسها وحيدة في الكون، وترقص.

كان ذلك قبل زمن. زمن طويل جداً. حياة أخرى ربما. أخبرت والدها أنها تريد أن تمتهن الرقص الشرقي. رمقها بأغرب نظرة متوقعة من رجل بهذا الحنوّ. قال لها: "هيدي الحركات مش لإلنا" (هذه الحركات ليست لنا)، وسجّلها في صف لرقص الباليه الكلاسيكي.
كبرت. تركت الرقص بكلّ أنواعه، وبقيت تستمع إلى مصطفى قمر. تسمع أغانيه من مسجّلة سيارتها، ترفع الصوت وتغنّي "السود عيونه دوبتني وفي ليل غرامه غلّبتني". تتخايل نفسها على مسرح كبير، ترقص بتلك البدلة الزرقاء.

تصل بسيارتها إلى المكتب، ترتدي الجاكيت، تربط شعرها، وتضع نظاراتها الطبية، ويبدأ نهارها. أكثر من عشرين عاماً مرّت. قمعت خلالها كل رغباتها الدفينة: الرقص (الشرقي تحديداً)، رسم وشم على ظهرها، وتلوين شعرها بذلك اللون الأحمر الغريب. قمعتها كلها.
"هيدي الحركات مش لإلنا" يتردد الصوت في رأسها في كل مرة أرادت الخروج عن الخط الذي رسمه لها المجتمع. يخرج الصوت من مكان ما. ونظرة أبيها المصحوبة بالصوت لا تفارقها.

*****

أخذها في طريق فرعي، ضيّق ومعتم. بدت سعيدة. كانت تحبه، وكان يحبها. ركن السيارة تحت شجرة. سنديانة على الأرجح، وقبّلها. قبّلته. انتهت اللحظة الجميلة، وانفجرت بالبكاء. لم يفهمها. قالت: "أريد العودة إلى البيت". أعادها إلى المنزل وهو يعتذر. لم تدخل البيت. ذهبت إلى الكنيسة. هناك حيث كبرت، وحيث كوّنت كل صداقاتها. الشعور بالذنب ظلّ يلاحقها. قررت رؤية الكاهن، وأخبرته بخجل عما حصل. كانت تنتظر عبارة عن حياتها الأخرى التي ستقضيها في الجحيم، عن الصوم والصلوات التي يجب أن تمارسها لأشهر. ابتسم الكاهن، وقال: "لا شيء أخلاقياً أكثر من الحبّ.. اذهبي بسلام".

كان ذلك قبل زمن. زمن طويل جداً. حياة أخرى ربما. ذهبت بسلام. أحبت بعدها كثيراً، وقبّلت كثيراً. تعلّمت أن الخوف يمنع الحياة. الخوف موت، وهي حية. "لا شيء أخلاقياً أكثر من الحبّ". تردد الصوت في رأسها في كل مرة نظرت إلى جسدها. في كل مرة رأت اثنان متعانقان في شوارع بيروت، في كل مرة تعبر فيها تلك الطريق الفرعية المعتمة، وقد أصبحت طريقاً رئيسية وعلى جانبيها مبان فخمة كثيرة. هزمهما المجتمع وقيوده مرّات كثيرة. قمعت رغباتها مرات أكثر. لكن الصوت لا يفارقها "لا شيء أخلاقياً أكثر من الحبّ". كلمات الكاهن الجميلة أنقذتها.
دلالات