لا سيادة بلا مواطنة حقيقية
مفهوم السيادة مرتبط بنشوء الدول وتطوّرها، وهو يحمل معاني عديدة، تنضوي تحته أهمها الكرامة والحرية واستقلال الإرادة. وإذا كانت كلمة السيادة تعني لغويًا السلطة والهيمنة والغلبة والسيطرة وحرية التصرّف، إلى ما هنالك من مزايا، فإنها أيضًا تعني الرفعة والمجد. وهي في المفهوم الشعبي، والمتداول بشكل كبير، تدلّ على التمييز في الشيء، فكثيرًا ما نسمع بسيد النبل أو سيد الكرم أو سيد الشجاعة وسيد الحكمة وغيرها، ما يعني أنها أمر قيمي. ولكن السيادة بوصفها مفهوما قانونيا على صلة وثيقة بمفهوم الدولة، وهي إذ تلامس مشاعر العامة لدى أي شعبٍ ينضوي تحت سيادة دولة ما، فإنها تدغدغ الكرامة، خصوصا تجاه الغير. وإذا كان مفهوم السيادة المطلق هو الذي ما زال رائجًا وحاضرًا في وعي المواطنين، فإن هذا الإطلاق لم يعد كما السابق في العصر الحالي، وفي ظل هيمنة العولمة، إذ أصبحت دول كثيرة مقيدة في سيادتها. وإذا كان القانون الدولي ينص على احترام سيادة الدول وعدم التدخل، فإن هناك ثغرات عديدة يمكن اختراق عدم التدخل من خلالها، بل سمحت العقود الأخيرة بالتدخل من دولة أو مجموعة دول لحماية حقوق الإنسان في بلد معين، باعتبار انتهاك هذه الحقوق يهدّد الأمن والسلم الدوليين، أو تحت شعار نشر الديمقراطية وحمايتها، والشواهد كثيرة أمام أعيننا، حتى لو كانت هذه الادعاءات ذريعةً تستخدمها القوى العظمى لبسط نفوذها أو تحقيق مصالحها.
السيادة إذ تلامس مشاعر العامة لدى أي شعبٍ ينضوي تحت سيادة دولة ما، فإنها تدغدغ الكرامة، خصوصا تجاه الغير.
جميلٌ أن يكون للدولة سيادة تمنح مواطنيها الشعور بالأمان والاعتزاز، لكن من المؤسف أن يكون الحكام العرب فشلوا في الحفاظ على هذا المفهوم وقيمته في وجدان شعوبهم. فقدت غالبية الشعوب العربية ثقتها بسياسييها وحكامها إلى الدرجة التي صار استدعاء الأجنبي أمرًا مقبولاً معها، بل مطلبًا عند شرائح واسعة من هذه الشعوب. وهذا ليس، في الجزء الأعمّ منه، سوى نتيجة سياسات الحكام والأنظمة، الداخلية والخارجية، فعندما تفتقد الدولة القرارات السليمة التي تصبّ في مصلحة الشعب، وعندما تمارس القمع وتشجّع الفساد وتفقر الناس، ولا توفر لهم فرص العمل والعيش، وعندما يتراجع اقتصادها وترزح تحت الديون، وتبقى آليات الحكم والإدارة كما هي قائمة على المحاصصة أو على الافتراق بين القيادة والشعب وعدم إشراكه الفعلي في اتخاذ القرارات، وعندما تكون الأجهزة الأمنية المسيطرة، ويكون الحكم شموليًا يقمع الفردية، وتفتقد سياسات الدولة المصداقية والشفافية، خصوصا في الأزمات، بل تعمد الحكومة إلى إخفاء المعلومات عن الشعب، وتتركه فريسة للتضليل أو الجهل، هذا كله وأسباب كثيرة يمكن إضافتها سوف يؤدي إلى الاستنجاد بالغريب.
صحيحٌ أن حوادث كثيرة مشابهة للانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الحالي، حصلت خلال قرن، منذ انفجار مصنع للأسمدة في مدينة أوباو الألمانية قبل مائة عام وانفجار سفينة الشحن النرويجية في ميناء مدينة بريست الفرنسية في العام 1947، وانفجار ميناء تكساس الأميركي في العام نفسه، وقبل أقل من عشرين عامًا كان انفجار مصنع أي زد إف في مدينة تولوز الفرنسية باشتعال 40 طنًا من نترات الأمونيوم في حاوية للنفايات الكيماوية، وغيرها في كوريا الشمالية في العام 2004، وفي الصين في ميناء تيانغين في العام 2015. لكن ما يصنع الفرق، عدا عدم استدعاء الأجنبي وتدويل القضية بسبب سيادة الدولة والثقة بقضائها، هو مدى الإهمال والفساد والاستخفاف بحياة المواطنين ورخص حياة البشر في بلد كلبنان، النموذج الصارخ عن بلداننا المنكوبة بأنظمةٍ صادرت حقّها في الحياة، فأفقرتها وجهّلتها وقمعتها وسادت ومادت في طول البلاد وعرضها، وكأن موارد البلاد ومقدّراتها مجتمعة ملكية خاصة لها، أو إن البلاد مزرعةٌ أو واحدة من إقطاعاتها.
يعكس الانفجار في بيروت مدى الإهمال والفساد والاستخفاف بحياة المواطنين ورخص حياة البشر في بلد كلبنان
لا يهم بعد الذي حصل في بيروت وما نجم عنه من سقوط ضحايا وجرحى بالآلاف، ومئات الآلاف من البيوت المدمرة والأسر المشرّدة، وانهيار البنية التحتية للمدينة، إن كان الانفجار بفعل فاعل أم هو حادث عرضي، لأن المشكلة الكبرى وأم المشكلات التي مهّدت للانفجار، ولغيره من الكوارث التي يعيشها شعب لبنان، هي مشكلة الفساد المستشري في كل الطبقات السياسية، وفي كل مستويات الحكومة، والترّهل في أنظمة الحكم، بل التصحّر والتكلّس الذي جعل منه نظامًا مضادّا لحياة الشعب، وما انتفاضة هذا الشعب في السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم غير الفتيل الذي أضرم نيران الغضب.
عندما أطلق الشعب صرخة "كلّن يعني كلّن" كان قد وصل إلى لحظة الحقيقة، حقيقة نظام مبنيٍّ على أسسٍ تعزّز التفرقة وتكرس الطائفية، وترسّخ حكم العائلات السياسية، حتى الأحزاب في لبنان تورّث فيها الرئاسة، فأي ديمقراطيةٍ هذه، وأي تعبير عن إرادة الشعب واضطلاع بالمسؤولية تجاه قضاياه؟ صار نظام المحاصصة الطائفية القائم في لبنان عقبة كبيرة في طريق نمو الشعب اللبناني وتطوره، وأوصلت سياسة الفساد المستشري البلاد إلى أزمات متلاحقة، لم يعد الفرد اللبناني قادرًا معها على العيش الآمن في دولةٍ يفترض أن يكون بينه وبينها عقد يضمن عيشه وبقاءها، تردّي الحياة وانعدام مفهوم المواطنة وسلب اللبنانيين من هذا الحق أدى إلى أن تكون لكل جماعة أو طائفة أو حزب مرجعياتها وولاءاتها، على الرغم من أن الجميع غارقون في المستنقع ذاته، مستنقع الفساد والحياة غير اللائقة بإنسانيتهم. لذلك، تتعالى الأصوات ويدور السجال والمبارزة بين قسم كبير منهم حول استدعاء أطرافٍ خارجية، منهم من يرى في فرنسا الأب البديل عن سلطتهم الفاسدة، ومنهم من يستدعي بفيضٍ من الحنين أيام الخلافة العثمانية، مُرجعين إليها الفضل حتى في إنشاء مرفأ بيروت، على الرغم من عراقته وتاريخه الذي يعود إلى أكثر من خمسة عشر قرنًا، ومنهم من يرى في إيران السند الداعم في النهوض من مآسيهم. والمخزي أن البلاد العربية خارج المعادلة، ففي وجدان كل مواطن عربي شعور من اليأس والإحباط واللا جدوى من العرب والأمة العربية.
مؤلم أن تصبح السيادة الوطنية أمراً غير ذي أهمية، وأن يكون الغريب أقدر على إدارة البلاد في ضمير الشعب
واقع مؤسف، مؤلم أن تصبح السيادة الوطنية أمرًا غير ذي أهمية، وأن يكون الغريب أرحم وأقدر على إدارة البلاد في ضمير الشعب، أي شعب، لكن الأنظمة الفاسدة المعادية لشعوبها التي كرست الفقر والجهل وانعدام الأمان والتجويع والتشرّد وانعدام فرص العمل والتمييز وغياب العدالة وشل الحياة السياسية وقمع المعارضين وكمّ الأفواه، وسرقة موارد البلاد وحرمان الشعب منها، كلها مجتمعة وغيرها يمكن أن تكون مبرّرًا لمن لم يعد يعنيه أمر السيادة كثيرًا، السيادة التي هي بالأساس منتهكة ومنقوصة ومرتهنة. هذه حالنا، نحن شعوب المنطقة المصابة بلعنة الجغرافية والتاريخ والاستبداد والفساد، والعاجزة عن انتخاب قادةٍ وطنيين من بينها، قادة يمكن أن تُعهد إليهم دفة القيادة، ويُمنحوا لقب المواطن لكل فرد تحت رعايتهم، ويكرّسوا بالقول والفعل مفهوم السيادة، فيعيدوا الثقة بين الشعب وبين دولته.