لا حَياةَ لمَنْ تُنَادي يَا أقْصَى
لم يعرف التاريخ العربي انحطاطا وإذلالا أكبر من هذا الذي تعيشه الدول العربية اليوم، ومن تجليات ذلنا وهواننا، خسر العرب كل قضاياهم الداخلية والخارجية، وانشغل حكامهم بالكراسي وإشعال الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، بهدف الخلود في السلطة، فأداروا ظهورهم للقضايا الداخلية كالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. والقضايا القومية كقضية فلسطين، التي كانت تشكل قضية العرب الأولى.
لقد أدرك الكيان الصهيوني هذه الحقيقة، وهو ما شجعه على مسارعة الخطى لتحقيق مزيد من المكاسب على الأرض، وتوسيع سيطرته على باقي الأراضي الفلسطينية، سواء من خلال شنه حربا عدوانية على قطاع غزة لإعادة احتلالها، أو انتزاع الأراضي بالقوة في الضفة الغربية وبناء المستوطنات، أو الإمعان في سياسة تهويد القدس وتدنيس مقدساتها..
لكن، يُسجل في الفترة الأخيرة تمادي الاحتلال الصهيوني أكثر في سياساته العدوانية، مستغلا انشغال الدول العربية في حروبها الداخلية، ليقوم بإطلاق العنان للمستوطنين الصهاينة وتدنيس المسجد الأقصى، والسماح لبعض السياسيين الصهاينة (نائب رئيس الكنسيت الصهيوني) كذلك بانتهاك حرماته، واعتداء جنود الاحتلال على المصلين في باحات المسجد وداخله، ولم يقف الكيان العنصري عند هذا الحد، بل تجاوز كل الحدود، عندما قرر إغلاق المسجد الأقصى في وجه المصلين ومنع رفع الأذان للصلوات.
كل هذه الانتهاكات الخطيرة تقع أمام أنظار العالم، دون أن تتحرك الدول التي تزعم أنها ترعى السلم والأمن الدوليين، لإيقاف هذا الطغيان الصهيوني، الذي ينتهك حرمات المسلمين، دون تقدير لخطورة ذلك على السلم العالمي، لأن هذه الانتهاكات الصهيونية المتكررة على مقدسات المسلمين في فلسطين، خلقت حالة من الغضب الشديد داخل الدول العربية والإسلامية، والذي لا يمكن لأحد أن يتوقع حجم ردود الفعل، التي ستنجم عنه، والتي قد تكون سببا في إشعال حروب دينية، إذا لم يتوقف العدوان الصهيوني على المقدسات الإسلامية.
لكن، هذا الموقف الدولي المتخاذل إزاء ما يحدث من غطرسة صهيونية، هو نتيجة طبيعية للموقف العربي الرسمي والشعبي المخزي، فإذا كنا في السابق نسمع على الأقل الشجب والإدانة من الحكام العرب، عندما يقوم الاحتلال الصهيوني بعمل عدواني، وتخرج المسيرات والمظاهرات الشعبية للتضامن مع المرابطين على أرض فلسطين، فإننا اليوم لا نسمع للحكام صوتا، كما لو كان ما يقع في فلسطين لا يعنيهم، وهذا الموقف العربي الرسمي المذل، هو الذي جعل العالم الغربي، يتجاهل ما يقوم به الاحتلال من عدوان على مقدسات المسلمين في فلسطين.
لكن الشيء الغريب هو أن نرى الشعوب العربية تلوذ بالصمت على جرائم الاحتلال الصهيوني، وخاصة مؤسسات المجتمع المدني والقوى والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية، لأن وظيفتها الأساسية تأطير الشعوب وتوعيتها وتعبئتها من أجل نصرة قضايا الأمة، لكنها اليوم تصمت صمت القبور، عن كل هذه الانتهاكات الخطيرة للمسجد الأقصى، وتركت الشعب الفلسطيني الأعزل يقاوم لوحده الاحتلال دون ظهير، فإلى متى سنبقى صامتين على هذا العدوان الصهيوني على مقدساتنا في فلسطين؟ هل ننتظر حتى يهدم اليهود الصهاينة المسجد الأقصى لكي نتحرك؟
المفارقة التاريخية المؤلمة، هي أنه في الوقت الذي تتداعى فيه معظم النظم والنخب العربية سرا وعلانية للتطبيع مع الصهاينة، نلمس تطورا في الموقف الغربي رسميا وشعبيا، يتجه نحو الانتصار للحقوق الفلسطينية، ومقاطعة كيان الاحتلال الصهيوني، وكمثال على ذلك، الموقف الشجاع وغير المسبوق للسويد، التي أعلنت في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، قرارها التاريخي بالاعتراف بدولة فلسطين، وبهذا الموقف المشرف الذي ينتصر لقضية إنسانية عادلة، تكون السويد قد كسرت الحصار والتعتيم الإعلامي والسياسي، الذي فرضه اللوبي الصهيوني في الغرب لسنوات طويلة، وفتحت الباب مشرعا أمام مبادرات أخرى داخل الاتحاد الأوروبي خاصة، وفي الغرب عموما، وقد سبق هذا الاعتراف السويدي، تصويت مجلس العموم البريطاني لفائدة الاعتراف بدولة فلسطين.
كما أن هناك حراكاً داخل الأوساط المدنية الغربية بهدف محاصرة ومقاطعة الكيان الصهيوني، بسبب تنامي الوعي لدى العام الغربي بالجرائم والانتهاكات التي يرتكبها في فلسطين ضد حقوق الإنسان الفلسطيني، وقد عرفت حملات المقاطعة الثقافية والأكاديمية تزايدا ملحوظا أثناء الحرب الصهيونية على غزة وبعدها، حيث أعلن نحو 150 مثقفا أيرلنديا مقاطعة الكيان العنصري ثقافيا وأكاديميا، كما اتخذ عدد من الفنانين والكتاب الغربيين الموقف المقاطع نفسه.
هذا الموقف المشرف في الغرب يجد تفسيره في أن هناك مجتمعا مدنيا حيا ونشطا، أما في الدول العربية، فالمجتمع المدني والحركات الاجتماعية والسياسية، تعيش حالة من الاحتضار أو الموت السريري، بعدما نجحت الأنظمة في إنهاكها وإشغالها بقضايا هامشية وصراعات داخلية.