لاجئون في سلّة الأحكام الجاهزة

27 يناير 2016
غونتر ديلغينياس/ ألمانيا
+ الخط -

يبدو أن دول أوروبية عدة أثرت عليها حادثة كولونيا في ألمانيا، والتي عرفت بحادثة التحرش الجنسي ليلة رأس السنة، فباتت ترى في جموع الشباب والرجال بدون عوائلهم بحاجة لما يسمونه "تثقيف جنسي".

ألمانيا لم تتردد في الحديث علناً عن ثقافة تلاقي الذكر والأنثى وشرح كيفية "التصرف حين تلتقي بسيدة". يُخيّل للمطلع على ذلك النقاش بأن إسقاطاً ثقافياً وحضارياً يحمل تعميماً يرى في الشباب اللاجئين -بغض النظر عن الخلفية الفردية للأشخاص- "قنبلة جنسية موقوتة".

ممّا لا شك فيه، فإن استنفاراً كبيراً شهدته الحركة النسوية في بعض دول أوروبا بعد انكشاف تفاصيل ما جرى في كولونيا، وغيرها من المدن التي جرى الزعم بأنها شهدت ما شهدته كولونيا. إنه استنفار من نوع آخر يضع "نموذج كولونيا" في إطاره الثقافي والحضاري بين "نحن" و"هم"، وهو مطبٌّ وقعت فيه حركات نسوية يسارية حتى في اسكندنافيا التي انساق فيها بعضهم خلف خوفه أو تخويفه.

ما كشفه النقاش طيلة ثلاثة أسابيع هو ذلك الارتداد السطحي بربط الاعتداء والتحرّش بـ "الثقافة" الأخرى عند "هؤلاء"؛ وهؤلاء بات تعبيراً مخفّفاً لما تستخدمه لغة شعبوية غربية أخفّها وطأة "تلك الكائنات" المشروطة تصرّفاتهم بديانتهم الإسلامية.

لا مناص من الاعتراف، من دون التعميم المسقَط على رؤوس الأوروبيين ورؤوسنا، بأن شيئاً من الكبت ينفجر في صفوف بعضهم. لكن، الأسوأ حقّاً، أن تصعد الحافلة فيصير هذا البعض أنت. نعم أنت الذي مرّ عليك أكثر من نصف عمرك تحت خيمة ثقافة الغرب.

تتردّد، وبصدق، معظم النساء والفتيات في الجلوس بجوار المقعد الذي تجلس عليه، لا تنتبه للأمر حين يكون رأسك إلى الأسفل، ليس لخجل من شيء لم تقترفه وفق تربية ثقافية لم يفهم التربويون الغربيون معانيها سوى متأخّرين، بل لأنك منشغل بهاتفك. ألم يحدث لعرب أن أُنزلوا من الطائرات باعتبارهم تهديداً ونزولاً عند رغبة الآخر؟

كيف يحدث فجأة أن نصبح جميعاً في سلّة واحدة، لكن من قال بأن القصة فجائية؟ بعض "المثقّفات" ذهبن في النقاش نحو نقيض آخر "يا لهم من مساكين هؤلاء اللاجئون... إنهم بلا نساء". مدهشة هي حالة الالتباس في فهم بعضهم لثقافته باعتبارها "مركز الثقافات".. مرض يطلق عليه العلماء "إثنو - سنتريزم".

قد لا يفهم وافد جديد "ما معنى أن تبتسم أنثى غربية، قد تكون بسن والدة شاب صغير، فيُسيء الفهم بأنها تغازله"، والجملة السابقة عنوان نقاش "المختصّين في الثقافة العربية" من غربيين وغربيات، وهم يحدّثون مواطنيهم: كيف تفهم التصرّف مع اللاجئ في خمس دقائق؟

النتيجة: مجتمع عابس مكفهر ينتج عنه تأفّف مسموع واهتزاز الرأس رفضاً بتمتمة ما عن "هؤلاء". وحين تنتشر ثقافة "ضعوهم جميعاً في معسكرات مغلقة"، أو "لا يستحق هؤلاء المسلمون معاملة سوى ما قام به هتلر"، فأنت بالتأكيد أمام تشكُّل ثقافة جديدة في الغرب، بل من قال إنها جديدة؟ هي ذات جذور تحت سطح يتفسّخ الآن فيظهر ما تحته من تقدّم يمين متطرّف، "تقدّمي".

ليست مزحة أنه تقدّمي. لنأخذ أسماء أكثر الأحزاب تطرّفاً في اسكندنافيا والنمسا وهولندا، وسنجد الآتي: أحزاب تحمل صفة الشعب والحرية. بل الأنكى أنك في السويد أمام حزب يسمّي نفسه "ديمقراطيو السويد"، وفي صفوفه أعضاء برلمان طُردوا منه بعد أن ظهروا وهم يؤدّون التحية الهتلرية.

في غمرة النقاش عن "القنبلة الجنسية الموقوتة"، وربطها بالدين، سألني إمام مسجد: تُرى كيف يقول هؤلاء إن من قام بالاغتصاب والتحرّش مسلمون مخمورون ليلة رأس السنة؟ مسلمون ومخمورون؟ لم أتردّد في الإجابة: تلك مشكلة المسلمين في التعريف. فإذا كانت المضمضة - وفق علي جمعة - كافية، فلِمَ لا يرى العقل التسطيحي الغربي المسألة من تلك الزاوية الطاهرة للحشيش حتى؟

تُرعبني مقولة شاب يتهكّم بنصف عقل: "انتظروا، لم يبق سوى توزيع الهلال الأصفر. أسوة بالنجمة الصفراء". فوق هذا وذاك، تحضر ثقافة تعرّي ما دفن تحت السجادة لسنوات وسنوات؛ أفلام من القاهرة عن "قيمة ومكانة الأنثى عند المسلمين".

حين تدقّق في ما يُعرض، لا شيء يستدعي ابتسامتك؛ فأنت أمام مأساة حقيقية: رجال شرطة بلباس داكن يساعدهم مدنيون في سحل فتيات في عملية قمع ما بعد "ثورة يونيو"، فهؤلاء هم المسلمون. وهؤلاء هم نحن جميعاً.

بكل بساطة، ينفجر نقاش في وجه لاجئ، آت من ثقافة غير مغمضة في جيلها الجديد، ربما مكبوتة نعم، لكنها أبداً ليست قططاً مغمضة، يجري القول له لغة ورسماً: لا تلمس مؤخّرة المرأة.. فهذه في ثقافتنا يعاقب عليها القانون.

بعد ثلاثة عقود ونيف، تنظر إلى نفسك في المرآة. تتأبّط أدواتك. تجلس في الحافلة. وبتلقائية، تأخذ المقعد الملاصق للنافذة. تتفرّس وجوه الصاعدات يردّدن: "صباح الخير" للسائق، ثم يخترن بعناية أماكنهن، متجنّبات الجلوس بجانبك.

أراهن بأن الشباب الذين كانوا يقولون ذات يوم: حين كنا ندخل متجراً كانت العيون تترقّبنا، يحوم حولنا "السيكيورتي"، رغم أننا لا نتحدّث عن فترة ظهور حادثة كولونيا ولا داعش، بل سنوات طويلة قبلهما؛ هم اليوم الأكثر غضباً من عقم نقاش يضع في الزاوية خندقاً عميقاً يهتفون بصمت من ورائه: هم ونحن.

أيتها السيّدة، السياسية في عقدك السادس، لا ليس العربي ماكينة جنسية، ولا هو قنبلة موقوتة. إنه دماغك كوزيرة من أصبح قنبلة موقوتة في مجتمع لا يحتاج بعد 50 أو 60 سنة أن يُقال عن مواطنيه من إثنيات أخرى: "مهاجرون، أجانب، بيركا"؛ والتعبير الأخير: PERKER مفردة مستخدمة عنصرياً لتمسح ملامحنا، ومن نكون باعتبارنا مجرّد خلطة إيرانية تركية باكستانية عربية تنتج ذلك الكائن "بيركا".

المساهمون