لأنّك لست محمد عساف

08 مارس 2016
لأنّك لست محمد عساف! (فرانس برس)
+ الخط -
عام 1983 بلغت غيرة الطبيب الإسكتلندي آرثر كونان دويل ذروتها من الشخصية الخيالية التي ابتكرها وسماها "شارلوك هولمز"، وكتب الرجل رسالة إلى أمه يخبرها فيها أنه ينوي التخلص من هولمز بقتله لأنه استنفد منه الكثير من الوقت والجهد، أو لربما لأنه بات مشهورا أكثر منه، فالحقيقة هي أن الجميع يعرف المحقق الفذّ وحتى طريقة لباسه وشخصيته وما يحب وما لا يحب ولكن لا أحد اهتمّ بأن يعرف الكثير عمّن اخترع تلك الشخصية.. السّير آرثر كونان دويل الطبيب الإسكتلندي.


كان الناشرون يُصرّون على دويل بأن يكتب المزيد من القصص عن "شارلوك هولمز" وكان يقوم بطلب أسعار خيالية ظنّا منه أنهم سيتوقفون عن طلب المزيد من القصص، لكنه كان يفاجأ بأنهم مستعدون لدفع مبالغ طائلة من أجل "هولمز" فنفد صبر السّير دويل وقام فعلا بقتل غريمه "هولمز" في قصة "المشكلة الكبيرة" واعتقد أنه تنفس الصعداء وتخلص منه، لكنّ احتجاجا واسعا من القرّاء وقف حجر عثرة في طريقه وظلوا لثماني سنوات أوفياء يحتجّون ويطلبون من السير كونان أن يعيد "هولمز إلى الحياة وكان لهم ذلك، بعد ضغوط كبيرة من جمهور القراء ومن الناشرين أعاد الطبيب الشخصية الشهيرة إلى الحياة عام 1901 في رواية "كلب آل باسكرفيل".. ظل "هولمز" شخصية حيّة في ذاكرة الجماهير أكثر حتى من كونان دويل نفسه وشُيّد لهولمز تمثال في العاصمة الإسكتلندية إدنبرة وتمثال آخر في سويسرا.

هذه القصة الخرافية التي تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة تُثبِت أن الجماهير يمكن أن تناضل وتقف إلى جانب أبطالها حتى إن كانوا من ورق!

بعد ذلك بـ 76 عاما كانت مصر والعالم العربي يودعان العندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ" الذي قضى في لندن متأثرا بإصابته بمرض التهاب الكبد الفيروسي وحضر جنازته ما يقارب 2.5 مليون مشيّع ولم يحضر الجنازة أولئك الذين انتحروا بعد أن صدمهم نبأ وفاته، فكانت ظاهرة غريبة وفريدة من نوعها في العالم العربي أن تنتحر جماهير بعد وفاة مطربها المفضّل!

سبتمبر/أيلول 2015 اصطحب الطالب السوداني "أحمد محمد" بكل فخر ساعة قام باختراعها إلى مدرسته كي يريها إلى مدرسيه في مدرسته بولاية تكساس الأميركية، لكن الفاجعة هي أن معلمته قامت باستدعاء الشرطة بدعوى أن طالبا قام بإحضار قنبلة إلى الفصل وتم اعتقال "أحمد محمد" ذي الـ14 ربيعا، ساعات بعد ذلك أطلقت شابة فلسطينية هاشتاغا على تويتر تحت عنوان: "أنا أتضامن مع أحمد" وأصبح هذا الهاشتاغ الرقم واحد في الترند العالمي على تويتر يومها، وتلقى أحمد دعما منقطع النظير في كافة أنحاء العالم ورسائل تضامن من هيئات وشخصيات مشهورة مثل وكالة ناسا والرئيس باراك أوباما وزوكربرغ وغيتس...، ولم تكن "آمنة جعفري" الفتاة التي أطلقت الهاشتاغ تتصور أنها ستساهم في إطلاق سراح الصبيّ بذلك، بل لم تظن يوما أنها ستقوم بإلقاء الضوء على العنصرية ضد المسلمين في أميركا، أو سيكون لها فضلٌ في مساعدة الفتى في الحصول على خيارات مذهلة في حياته العلمية بعديدٍ من العروض والمِنَح التي تلقاها من معاهد وجامعات عالمية مرموقة..

أتذكّر تلك الأمور ولا أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله في القصص الثلاث، المتباعدة أزمنتها والمختلفة في مضمونها والغريبة بعض الشيء أيضا والتي تتقاطع في شيء واحد: إلى أيّ حد يمكن أن تصل الجماهير؟!

غضبُ جماهيرٍ يعيد الحياة لشخصية ميتة، وموت شخصية يودي بحياة جماهير واحتجاج جماهير أخرى يُغيّر مجرى حياة شخصية عادية ومغمورة إلى الأبد!

أسترجع ذلك كله بكثير من التشاؤم.. بكثير من الحزن على حال الأمة، على حال شبابها وشيبها وحاضرها ومستقبلها.. كان قد مضى الكثير على اعتقال الصحافي محمد القيق وعلى دخوله في إضراب مفتوح عن الطعام، بتهمة التحريض على العنف ضدّ الاحتلال في تقاريره.. وتبدو جملة "العنف ضد الاحتلال" جملة غريبة ومشوّهة.. متناقضة وغير متناسقة، كل ما فعله القيق هو أنه كان صورة الانتفاضة وصوتها.. صوتنا جميعًا وضميرنا جميعًا.. مع الإعلاميين الذين يقفون عند خط النار لنقل الصورة الحقيقية لشعب يناضل لاسترجاع الأرض المغتصبة.. وكان أضعف الإيمان أن نؤمن جميعا أن فلسطين تتحرر بمُناضليها ومُقاوميها ورصاصها وأنها لا تحتاج للغناء لتتحرر، لأننا منذ 1948 ونحن نغني ولم يتحرر فرسخٌ واحد!

مع ما تعرّض له محمد القيق وباقي الأسرى من تعذيب واستنطاق وانتهاك واعتلال في الصحة، لم يكن محور حديث الجماهير عنه على الواقع أو في مختلف المواقع يعنيهم في تلك الفترة بقدر تناقلهم لأخبار نجوم ستار أكاديمي وذا فويس كيذز وديو المشاهير وغيرها...، لا شيء يقلقون عليه سوى فسخ خطوبة محمد عساف، واحتمال إصابته بالكآبة مع خطيبته بعد انفصالهما، ومن تُراها سعيدة الحظ التي سيختارها بعد أن أصبح بدون خطيبة!

كان جليّا على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المواقع الإخبارية أن الجماهير التي لا تتوقف عن إذهالنا ببرودها، لا تعنيهم كثيرًا أوضاع القيق الصعبة مع رفاقه الأسرى والمضربين عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فهم منشغلون بفسخ خطوبة محمد عساف، وبحفلات محمد عساف وبطريقة تصفيف شعر محمد عساف.. لا يعنيهم إن كان محمد القيق قد فقد قدرته على السمع أو فقد صوته فهم مكتفون حد الغيبوبة بصوت محمد عساف. ولو أن شعرة واحدة سقطت من رأس محمد عساف لكانوا أكثر قلقا عليها من صحة مواطنه محمد القيق، فهل كان هذا الأسير الشجاع ينتظر منا أيّ خطوة أم أنه وآلاف الأسرى والمظلومين على هذه الأرض فقدوا الأمل تماما في هذه الأمة وغسلوا أياديهم منّا فالأمر بات واضحا الآن، أنّك إن كنت مُقاوما حُرّا، مناضلا وطنيا أو قوميا لا ينبغي أن تنتظر الكثير منا، كل ما عليك أن تفعله هو أن تكون أحد الفنانين العظماء الذين تقوم إم بي سي بتفريخهم كي نقلق بشأنك، كي تقوم الدنيا وتقعد لأجلك، أو كي ننتحر لأجلك حتى، وأنه مهما كان صوتك عاليا ورسالتك قوية وصادقة وواقعية فنحن لسنا على استعداد لسماع ما يصدع رؤوسنا ويقض مضاجعنا بل نحن على استعداد كامل لسماع ما يطربنا فقط... فعذرا محمد القيق، نحن لم نتعاطف معك بالشكل الذي يليق لأنك لست محمد عساف!

لقد بتنا فعليّا أمواتًا، فالجماهير الحيّة يمكنها أن تبعث الحياة في أيّ شيء ميت! ولكننا نبعث الموت في كل الأشياء الحيّة الجميلة، ما حدث هو العار بعينه، عارٌ كبير علينا فمحمد القيق ليس سوى واحد من آلاف المنسيين في السجون ومن آلاف المُهجّرين، هو أحد الذين يمرّون على تاريخنا لتعريتنا أكثر فأكثر ولإسقاط أوراق التوت عنا فهلّا اكتفينا من تعرية خيباتنا أمام الآخرين أم مازال هناك المزيد؟!


(الجزائر)

المساهمون