غادرنا قبل أيام الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور (حيفا 1946- رام الله 2017). هنا قصيدتان من إنتاج الشاعر في المرحلة الأخيرة من حياته وصلتانا منه، ينشرهما موقع "العربي الجديد"، بالإضافة إلى مخطوطاتهما المكتوبة بخط يده.
جائزة ترضية
منذ متى؟ منذ أين؟..
أخذتُ علماً بأنّ لي وطناً
فتغيرت حياتي
من ملاعب الطفولة انتقلتُ
إلى غُبار الأسئلهْ
زد على ذلك
أنَّ أُناساً، هم أهلي بالتأكيد،
ينتسبون إلى هناك
منذ متى؟ منذ أين؟..
حتى صرختُ ذاتَ حَيْرة:
منذ خمس وثلاثين سنة
وأنا أركض تحت الطائرات
ودائماً
فوقَ رأسي وحَولي تنبحُ الطائرات
ويوم أضعتُ القصيدة
قلتُ: أكتب غيرها
حتى أمسكتُ بطرف الخيط:
هذه الطائرات هنا، لأنني من هناك
أين الوطن؟
وتعلقتُ بحبال الهواء
هُنا، من هناك، لا، بل نعم
ثم حرب فغربه
وأنا أركض تحت الطائرات
تصدّني أبواب
ولا تلبث أبواب سواها أن تصدَّني
لكن روحي كانت قد أخذت علماً
فقفز القلب إلى الراحهْ
وانتهى عهد الراحهْ
منذ أن أصبح عندي بوصلهْ
ولأن الفصل يلزمه، لإكمال النشيد،
جرحى وقتلى وأشياء من هذا القبيل،
فقد غصَّ النشيد بالجروح والحروق
واتفق لي أن استُشهِدتُ مرة
ثم مرةً، فمرارا
ويبدو أن أرواحي تُنافس القطَّ عدداً
ومازلتُ
حتى أقلقتُ راحة العالم
فقيل لي بامتعاض:
يجب أن يكفيك هذا، فانصرِفْ..
وإليكم هذا
هو شيءٌ كالوطن
لا يتسع لحكاية جدتي
وليس كافياً كوجبة العيد
- ضريبة غداء العيد ألّا عشاء-
وعلى هذا،
فإني أشمُ ولا أذوق
ألمس على غير مَلْمَس
وعندما أسمع الطبول
فمن المفزع أني لا أرى
هو شيء كالوطن
هو هذا ليس إلا
بيني وبين القط بعض التشابه
فلنا أرواح جمّة
وليس هذا فقط
فأنا أكّالٌ نكّار
أخذتُ جائزة الترضية
وليس لي إلا أن أطلب المزيد
فأنا لا أكتفي
ومن أين يكتفي؟
ممسوس أخذ علماً بأن له وطناً
زد على ذلك
أنني لم ألتقط مِكروب القناعة
أدق باباً يصدني
فيردّني ألف باب
وماذا أفعل بروحي
هذه التي لا تملأ عينها جوائز الترضية؟
أخذتُ علماً
فلم أصل إلى حد علمي:
ليس هذا وطناً، بل جائزة،
الترضيهْ
وأنا من جَدّ فسعى
وما كان ليرضى
وهكذا أركض تحت الطائرات
مرَّ عُمْرٌ فوق عمري وأنا أركض
وأُنادي من يسمعني بالتأكيد:
أين أنت؟
أين أنت؟
أين..
يا وطني
■ ■ ■
سؤال شخصي للقدس
ما الذي يجعل منكِ القدسَ؟
لا أسألُ، بل أدخل في سحرِ الجوابْ
ما الذي يجعلُ منكِ القدسَ؟
أُسبوعكِ أيامٌ،
وزيتونكِ زيتونٌ،
وفي أرضكِ مما يطأ الناسُ، ترابٌ كالترابْ
فلماذا وحدكِ القدسُ،
وما دونكِ أسماءٌ.. قرى، أو مدُنُ؟
ولماذا طارت الصخرةُ،
وانكبَّ عليكِ الدهرُ؟
فيك السطر يجري نحو اسطورتهِ،
والآدميُّ البكرُ يجري نحو معمورتهِ،
والجوهر الفرد يؤاخي بينَ ماضٍ وغدٍ،
فالحجر الطاعن يستيقظ عصفوراً،
وتاريخاً يصيرُ الزمنُ
ألهذا وحدكِ القدس،
وما دونكِ أسماءٌ.. قرى أو مدنُ؟
ودَّ أن يخطفكِ الساحرُ،
أو يحذفَ أوصافَكِ سرُُّ الكيمياءْ
وبصبر المكْر في التاريخِ،
دالت دولةُ السحرِ،
ولم ينحلَّ نورُ الفجر في قارورةِ السرِّ،
.. جيوشٌ هُزِمَت،
والتأمتُ كلُّ جراحٍ العُمرِ،
أو عادت ففاض النبع بالأحمر والزعترِ،
فيما بَرَقَت أسماؤكِ الحُسنى على الأقواسِ،
قدسُ، ويبوسْ
أورشليمٌ، إيلياءْ
وارتدى نجمُكُ ثوب العيد صبحاً،
فاهتدى الأعمى إلى نار المجوسْ
هكذا شاب الهواءْ
وانحنى الأفقُ.. ومازلتِ العروسْ
هكذا الدنيا،
هي الدنيا وأنت اللحظة العليا،
وأنتِ الوطن
ولهذا وحْدكِ القدس،
وما دونكِ أسماء.. قرى أو مدنُ
ولهذا سبَّح العيدُ فكنتِ اللهجةَ الأم لأبناء الدعاءْ
غير أن الصبحَ طفل يسألُ
وانحناء الظهر عمرٌ يسألُ:
إن تكوني لشعوبِ الأرض مفتاح السماءْ
فلماذا لستِ لي أرضاً، وأرضي أنتِ؟
منذ الدمعة الأولى على السيفِ،
إلى أبعد بَرْقٍ في الفضاءْ
ليس ما يطلبه الجرح ضمادا
ليس إلا ألماً ما يؤلم الحلق من الجرحِ
وجرحي ألمٌ صار بلادا
إنه يصرخ يا...
لكن ريحاً صرصراً تذرو وتجتاح المنادى
والذي يجعل منكِ القدسَ،
أنَّ العرس محمول على الجرحِ،
وهذا فرحي يختال في الموعدِ،
لكن خطفوا مني العروسْ
أكل الساحر من مِزْوَدة الحارِسِ
واستولى على سحر الطقوسْ
فإذا الليلُ تهادى
خرج الحارس من خاصرة الصخرة،
والتفَّ على المهد ونادى:
يا يبوسْ
أورشليمْ
إيلياءْ
قدسيَ الأقدس، قُدَّاسَ الضياءْ
ها أنا بين يديْ أُمي،
ويدعوني أبي،
لكنني وحدي اليتيم
لم يزل جرحكِ عرساً وحَماماً يهدلُ:
طال في الغربة ليل الخيل والأطفالِ،
هل متَّسعٌ بعدُ لأطفال الحِمى كي ينزلوا؟
ما الذي ينزفُ من هذا المدى؟
هل هو قلبٌ مُثخنٌ أم أملُ؟
إنه يصرخ يا...
والوعد أن ينقله الرعد ويرعاه السَّحابْ
هو لا يسأل بل يدخل في سحر الجوابْ
مَنْ ترى يجعل منكِ القدسَ غيري؟
أنتِ مهدي، صخرتي، ميلادُ إسرائي،
وإسفلتٌ سماويٌ لطيري
ولهذه أنتِ حكمٌ بالعذابْ
وأنا المحكوم بالعودةِ..