كيلة وصالح: حوار الطرف الواحد

19 اغسطس 2015
+ الخط -
لعل من أهم فضائل الثورة السورية، أنها رفعت الغطاء عن التناقضات والاختلافات بين مكونات الشعب السوري، بمن فيها المثقفون المعنيون بقضايا المجتمع (الإنتلجنسيا). ولا تقتصر التناقضات والاختلافات تلك على أصحاب الإيديولوجيات المختلفة، بل هي تظهر، أكثر فأكثر، ضمن أصحاب الإيديولوجية الواحدة. وما يهمني هنا المثقفون "الماركسيون" الذين تُظهر بعض حواراتهم، هذه الأيام، مدى "التشتت" في فهم الخلفيات الاجتماعية- السياسية للنظام السوري والثورة السورية ومكوناتهما المتعددة.
تسهم هذه الحوارات في فهم الواقع الاجتماعي- السياسي في سورية، على نحو أعمق وأدقّ، لكن اللهجات المستخدمة في بعضها، ومحاولات كل كاتب الدفاع عن نفسه ومقولاته بشتى الوسائل، وعدم الالتفات إلى الإضافات التي يمكن للكاتب الآخر أن يقدمها.. تطرح مسألة سياسية في غاية الأهمية، في هذه المرحلة الحرجة، من مسيرة الثورة السورية، هي: إذا كان أصحاب الخلفية والنظرية الواحدة، والماضي النضالي السابق الواحد، والرؤية العامة الواحدة لسورية المستقبل يتبادلون التهم على صفحات الجرائد، فكيف سيكون بالإمكان بناء التحالفات اللازمة للتأسيس لعقد اجتماعي سوري قائم على المواطنة وحرية الرأي والتعبير؟ أليس الأحرى أن يتفق "ذوو القربى النظرية" قبل الدعوة إلى مثل تلك التحالفات؟
أطرح هذا التساؤل بمناسبة الحوار الذي جرى على صفحات "العربي الجديد" بين سلامة كيلة ومحمد الحاج صالح (وآخرين)، والذي تعرض لمفكرين آخرين، يفترض أنهم من المدرسة نفسها، مثل صادق جلال العظم وبرهان غليون.
يقول سلامة كيلة في مقالته "المظلومية السنية" في سورية (العربي الجديد، 5 أغسطس/آب 2015): "بعد أربع سنوات من الثورة في سورية، أصبح الأمر يتعلق بـ "مظلومية سنية"، وليس بثورة ضد نظام استبدادي مافيوي، حيث بات الأمر يتعلق بـ "حق طبيعي" لـ "الأكثرية السنية" أن تكون الحاكمة، لكن "الأقلية العلوية" استأثرت بالسلطة. هذا منظور أستاذ كبير، هو صادق جلال العظم". ويرد محمد الحاج صالح: "الأنكى أن الأستاذ (سلامة كيلة) يُقحم اسمي المفكرين، برهان غليون وصادق جلال العظم، ويتهمهما بأنهما هما ونخبٌ ركبوا الثورة، وصنّعوا فكرة المظلومية السنية وثبّتوها، من دون أن يأتي باستشهاد من كتاباتهما، مكتفياً "بالشعبطة" على اسميهما".

لا أرى أن صادق العظم (أو برهان غليون) نفى يوماً أن نظام الأسد استبدادي مافيوي، أو أن الأمر (كله) متعلق بحق الأكثرية السنية في السلطة، بدلاً من الأقلية العلوية. لكنني لا أرى، في الوقت نفسه، أن سلامة كيلة يريد "الشعبطة" على الاسمين الكبيرين. الأمر في نظري متعلق بقراءة غير متعمقة، حتى لا أقول متسرعة، لما كتبه صادق في أكثر من مناسبة.
لم أقرأ أي مقال أو مقابلة مع صادق العظم، لم يؤكد فيها على استبداد نظام الأسد والمافيا المحيطة به، و"المحرقة والذبح" اللذيْن يتعرض لهما الشعب السوري على يد هذا النظام وطغمته. أما ما يتعلق بـ "طائفية النظام"، فيكتب العظم في مقالته "سورية في ثورة": "وتعلم دمشق كلها أن الجيش، وحزب البعث، وأفرع المخابرات، والاقتصاد المدار على الطريقة السوفييتية، والجهاز الإداري في الدولة -والتي يهيمن العلويون عليها- تمثل جانباً واحداً من المركّب. وأما الجانب الآخر -ذو العقلية التجارية المدنية- فيهيمن عليه السنّيون". ويضيف: دعوت ذلك مرة: "مركّب التاجر العسكري". أليس هذا توصيفاً دقيقاً لتركيبة النظام السوري؟
في رده على محمد الحاج صالح (عن النكايات: رد على محمد الحاج صالح، "العربي الجديد" 12 أغسطس/آب 2015)، يقول سلامة كيلة: "أما صادق العظم فقد أخذ يتحدث بهذا التقسيم متأخراً، وهو العلماني الماركسي (يبدو أنني يجب أن أضيف السابق)". أن تكون علمانياً ماركسياً، عزيزي الأستاذ سلامة، لا يعني أن تكتفي بالبحث في البنية الطبقية للمجتمع، من دون أن تبحث في مكونات المجتمع الأخرى، بما فيها المكونات الطائفية والقبلية والعائلية وغيرها. وأظن أن هذه كانت من سلبيات التحليلات الماركسية في بلداننا العربية في نصف القرن الماضي. العكس تماماً هو الصحيح. لكي تجري تحليلاً ماركسياً للمجتمع، عليك أن تدخل في تركيبته المعقدة كلها، ثم تبحث في كيفية استخدام الطبقات المتصارعة لمكونات تلك التركيبة. وهذا بالضبط ما قرأته في مقالات العظم.
في لقاء مع ديمة ونوس (المدن 13/12/2014) قال صادق العظم: "في سورية اليوم، لا نجد طوائف معبّأة عسكرياً بعضها ضدّ بعضها الآخر، أو جاهزة للولوج في صراع مسلّح في ما بينها، باستثناء العمود الفقري للسلطة والدولة وأجهزة الأمن والقمع، أي الطائفة العلوية من جهة، والعمود الفقري للثورة، أي الأكثرية الشعبية السنّية من ناحية ثانية". ليست الطوائف هي التي تتصارع، إذن، بل العمودان الفقريان لطرفي الصراع. هل هناك من ينكر ذلك؟ إن استخدام النظام الطائفة، ومحاولات جرّها لتقف إلى جانبه، بتخويفها من "الأكثرية السنية" أوضح من أن يحتاج إلى دليل. وعلينا أن نكف عن دس رؤوسنا في الرمال، تجنباً لتهمة الطائفية. وإن وجود عدد كبير من المناضلين العلويين المعارضين للنظام، والذين قبعوا في سجونه مدداً طويلة، لا ينفي حقيقة أن العمود الفقري للنظام، آلة القمع والإرهاب التي يستخدمها، هي من العائلة الحاكمة وأتباعها من الطائفة العلوية، وإن استخدام النظام أتباعاً ومنحه امتيازات لعدد من التجار من الطائفة السنية لا ينفي الشعور السائد لدى معظم السوريين بأن النظام طائفي، قلباً وقالباً.
كان صادق العظم محقاً عندما قال: "جميع الاجتماعات والمؤتمرات والمناقشات التي شاركت فيها خلال السنوات الماضية كانت تتهرّب عمداً من الاعتراف بوضوح بالأبعاد الطائفية للصراع في البلد، وكأن ذكر الشيء يجلبه وعدم ذكره يبعده. أما في الجلسات الخاصة ولحظات المصارحة وحلقات المثقفين المغلقة، فكان البعد الطائفي هو الذي يطغى على التحليل والنقاش والتفسير والمصطلحات". وأتفق مع صادق في هذا، وفي قوله: "من الأفضل للثورة أن تعي نفسها جيداً بلا تورية، وأن تصارح نفسها علناً بما يقال خلف الأبواب المغلقة".
من ناحية ثانية، لست مع ما يقوله محمد الحاج صالح إن نقد سلامة كيلة "يطاول الجمهور والمفكرين والسياسيين المساندين للتغيير والثورة، ويحامي عن موقف النظام ويطابقه حقيقة، كما كثيرين صار جلّ عملهم شتم الضحية، وتزيين مواقف الطغمة الطائفية ما أمكن". ففي مقالات كيلة ومقابلاته نقد موضوعي عميق للنظام السوري، وانتصار للثورة السورية وأهدافها في الحرية والعدالة وإقامة دولة القانون والمواطنة المتساوية. الأمر متعلق باللغة المستخدمة، ومحاولات الدفاع عن كل كلمة قالها الكاتب، مع أننا جميعاً نخطئ التعبير أحياناً، ونحتاج، كلنا، لمزيد من التدقيق في آرائنا ومواقفنا وتصويبها، تبعاً لتطور الأحداث والممارسات.

88B09C6F-3943-43D6-8F60-1133901D8823
خضر زكريا

أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع في جامعات دمشق ووهران وعدن وقطر، من مؤلفاته نظريات سوسيولوجية، التركيب الاجتماعي في سورية، محاورات سياسية في الاشتراكية والديمقراطية.