كيف نحوّل الوفرة إلى ازدهار

19 سبتمبر 2014

مع الثورة الصناعية بدأت تظهر الحركات الاجتماعية المعارضة للاحتكار(Getty)

+ الخط -

ينشأ، بالنظر إلى الثورة الصناعية، ثم المعلوماتية والمعرفة، على نحو بدهي وتلقائي، استنتاج يتبعه سؤال، فمن الواضح أن منظومة التقدم السياسي والثقافي والاجتماعي التي شهدها العالم هي نتيجة متسلسلة للثورة الصناعية، الديمقراطية، والوفرة والمدن والنقل والفنون وكل أساليب الحكم والحياة، تبدو متوالية، تشكلت حول الثورة الصناعية والمعرفية. وبطبيعة الحال، فإن السؤال البديهي لماذا لم تنشأ المتوالية نفسها في الدول والمجتمعات العربية، على الرغم من انخراطها في المرحلة الصناعية والمعرفية، وكيف يمكن أن تتحوّل هذه المشاركة العربية والتحولات الصناعية والمعرفية إلى متوالية تقدم؟ والواضح أنه تقدم وازدهار لا ينشأ تلقائياً، بمجرد القدرة على تشكيل فائض في الموارد، والحصول على المعرفة والتقنيات التي تتيحها الصناعة، بدليل ما يحدث، وما حدث، في البلاد العربية، بل يمكن القول، ببساطة، إنها وفرة أو تحولات أنشأت مزيداً من الفشل والاستبداد والصراعات والهدر والخسائر في الإنسان والموارد!

يبدو من نافلة القول التأكيد على أن الازدهار ليس الوفرة في الموارد، لكنه ببساطة متوالية من التشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حول الموارد والأمكنة، أو لنقل الوفرة في الموارد والتقنيات والمعرفة التي تحسّن الحياة، بما يعني ذلك التحسّن الحريات والكرامة والتعليم والصحة والرفاه، أن نكون جزءاً من العالم القائم، اليوم، بقيمه ومعارفه وتجاربه، نشارك فيه ونستفيد منه!

سأعرض في هذه المساحة تحولاتٍ نشأت بفعل "وحول" الثورة الصناعية، لملاحظة كيف يمكن أن نقتبس (الدول والمجتمعات العربية) أو نقترح مساراً ندعو إليه في الإصلاح والتقدم، أو نلاحظ ونقيّم العيوب والفشل في الاستجابة المفترضة، أو المتوقعة، للموارد والتشكلات الحديثة.

التقنيات والفرص التي صاحبت الثورة الصناعية أنشأت طبقة جديدة من المهنيين والقادة الاجتماعيين والتجار والمبادرين، والذين دخلوا في صراع مع الطبقات السائدة من النبلاء وكبار الملاكين والتجار، وأنشأ ذلك مجموعات سياسية ومهنية متنافسة، لجأت في صراعها إلى البرلمان والمحاكم، فنشأت قواعد للتعددية السياسية وتنظيم الصراع، واتجه النضال إلى إصلاح القوانين والمحاكم والمؤسسات التشريعية والقضائية، لتكون على أفضل مستوى من الكفاءة والعدالة، وقادرة على تنظيم الصراع والاختلاف، وحماية التعددية السياسية التي ترسخت، باعتبارها البديل الوحيد للحروب الأهلية والصراعات المدمرة، أي أنها، ببساطة، نقل المعارك الحربية والمسلحة إلى معارك سياسية سلمية، تدور رحاها في البرلمان والمحاكم.

كانت القوانين السائدة، قبل الثورة الصناعية، تعزز الاحتكارات والامتيازات التي تتمتع بها فئة من دون الناس، فاستهدفت هذه القواعد والتقاليد لتحل محلها تقاليد التنافس المفتوح على الفرص والأعمال والوظائف والعطاءات والأعمال وتوريد الخدمات والسلع وإنتاجها وتسويقها، وجعل ذلك النُخَب أو القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مجموعة مفتوحة من الاتجاهين؛ الدخول إليها والخروج منها، لم تعد مجموعة مغلقة متوارثة، ولم يعد البقاء فيها ممكناً إلا للأفضل، والجدير بالبقاء والقادر على النجاح في امتحانات الثقة والانتخاب والتنافس والعرض والطلب! وانتصرت المجتمعات على الإقطاع، ووضعت حداً نهائياً للحقوق الإلهية المزعومة والاحتكارات والامتيازات الموروثة، وتوسّعت وامتدت ممارسة السياسة إلى فئات وطبقات واسعة في المجتمع، وتعززت سيادة القانون والمساواة بين جميع المواطنين، على اختلاف طبقاتهم بلا استثناء أمام القانون والمحاكم.

تحقق ذلك في سلسلة طويلة من الصراعات والإصلاحات في القوانين المنظمة للحياة السياسية والاقتصادية، في الانتخاب الذي بدأ مقتصراً على فئة من الناس، محددة بالعمر والدخل والرجال، وصار الانتخاب، بعد سلسلة تعديلات ونضالات، شاملاً جميع البالغين من الجنسين. وبذلك، اتّسعت القاعدة الانتخابية التي تفرز قيادات المجتمع والدولة، وكرّست المساواة أمام القانون والمحاكم والمساءلة القضائية، لتجد الفئات المتسلطة سابقاً نفسها أمام المحاسبة والقضاء، في حال لجوئها إلى التزوير والإكراه وشراء الأصوات.

وبدأت النخب التقليدية المتشكلة قبل الثورة الصناعية تنحسر، لتحل محلها بالتدريج، أو تشاركها نخب جديدة، وتغيّرت التحالفات التي كانت تعتمد على النبلاء والتجار والصناعيين والسياسيين اليمينيين والمحافظين، لتنضم إليها، بل وتهيمن عليها فئات جديدة من العصاميين والمبدعين والقيادات الاجتماعية والثقافية الجديدة، والصاعدين على أساس الموارد والأعمال الجديدة، وقد وجدت هذه النخب الجديدة مصالحها وفرصها في الديمقراطية، فتكرس العقد الاجتماعي المنظّم لتداول السلطة والفرص، باعتباره الوسيلة الأفضل لتنظيم التنافس والصراع، وباعتباره الضامن الأساسي للحقوق والمصالح!

أظهرت مجريات التنافس والصراع للناس أن لديهم حقوقاً ومصالح، يمكن استعادتها والدفاع عنها في المحاكم والبرلمان، ومن خلال الضغط والتأثير، وهكذا، نشأت الديمقراطية، وإن بدأت منقوصة، فلم تكن المرأة يحق لها التصويت، وكذلك معظم الرجال البالغين. تشكلت الديمقراطية، و"نضحت" في سلسلة من المكاسب والاستجابات الصغيرة والمتواضعة. وكان الاقتراع العام يعني تحسين الحياة وتوفير مسكن وطعام وعمل ولباس جيد لكل مواطن، وتعزيز العدالة ومكافحة الفساد والاحتكار والامتيازات، وكانت هذه التنازلات من النخب للجماهير الوسيلة الوحيدة للحفاظ على النظام، ولتجنب القوة في المواجهة.

وطورت قوانين العمل لصالح العمال، وبدأت الدولة توفر مزيداً من الخدمات العامة في الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وعدالة التوزيع والانفاق العام، وأصبح النظام الضريبي أكثر عدالة وتقدمية، وارتفعت نسبة الأطفال الملتحقين بالمدارس. في بريطانيا، مثلاً، ارتفعت نسبة الأطفال الملتحقين بالمدارس من 40% عام 1870 إلى 100% عام 1900، وصدر في عام 1902 قانون التعليم الذي فتح المجال لتوسعة الانفاق على التعليم، وليشمل التعليم الثانوي.

وبدأت تظهر الحركات الاجتماعية والسياسية المعارضة للاحتكار والامتيازات، وعمليات حشد الجماهير والرأي العام وتعبئتهما، وتشكلت منظمات لحماية الحقوق مثل اتحاد المزارعين، وبدأ الإعلام يأخذ دوراً رائداً في الرقابة على المؤسسات والتوعية والتنظيم باتجاه أولويات المجتمعات وأهدافها، واطلاع الشعب على مجريات الأحداث والمعلومات التي تمكنهم من العمل، واتخاذ المواقف الملائمة.

وهكذا، يمكن النظر إلى سلسلة التقدم والتشكل حول الإنجازات الناشئة عن الموارد الجديدة ووفرتها، بأنها على النحو التالي: تدوير النخب والفرص والأعمال بالمشاركة فيها، أو الخروج منها على أسس عادلة، وتنظيم هذا التنافس بعقد اجتماعي سلمي، يجعل جميع المواطنين سواء، أمام القانون والمحاكم، وحماية ذلك بإعلام حر ومستقل ومنظمات اجتماعية ومهنية، تعزز المكاسب وتحرسها، وتدير الصراع والتنافس في ما بينها.

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"