كيف "تتحضّر" المجتمعات

08 فبراير 2015
+ الخط -
برغم أن كتاب "سيرورة التحضّر"، (Civilising Process)، يعتبر من أهم الكتب في علم الاجتماع والاجتماع السياسي، إلا أنه لم يُكتشف عملياً إلا بعد عقدين من نشره بالألمانية، وتحديداً بعد ان تُرجم للإنجليزية عام 1978. مؤلفه، نوربرت إلياس، عالم اجتماع ألماني صدمته أهوال الحرب في ألمانيا وسيطرة العنف والعدوانية فيها. ودفعه ذلك للبحث العميق في كيفية وصول غرب أوروبا وتطورها من مجتمعات غلب عليها الجهل والعنف إلى مجتمعات "متحضرة">

يركز إلياس على تحليل الفرد بكونه الوحدة الأساسية في التحضر والتمدّن وأسّ قيام الدولة الحديثة، ويبحر في تحليل سوسيولوجيا تطور سلوكه في المجتمعات الأوروبية في بيئات اتّصفت بالرجعية وغلب عليها طابع العنف، ثم تحولت إلى أخرى "متحضرة".

كان إلياس قد اندفع لكتابة هذا البحث لتفسير سيادة مسلكيات العنف والعدوانية عند الالمان برغم افتخارهم بذاتهم الجمعية وبألمانيا وحضارتها وتاريخها. يرى إلياس أن عملية "التحضر" التي مرت بها أوروبا على مدى خمسمئة سنة بدأت في سلوك الفرد وأسلوب الحياة (Habitus)، إضافة إلى الأخلاق التي يكتسبها الفرد، وذلك من خلال البحث في الجذور الاجتماعية وتركيبة المجتمعات المختلفة في أوروبا. وتابع انتقال "السلوك الأخلاقي" من مجالس النبلاء إلى الطبقة البرجوازية ثم إلى عامة الشعب، حيث ساعد بشكل تدريجي على تغيّر أفراد المجتمع في كيفية النظر لأنفسهم، ومن ثم كيف بدأت هذه المجتمعات بمقارنة نفسها بالمجتمعات الأخرى. وقاد ذلك إلى مراجعة الأفراد لجميع تصرفاتهم بدءاً باللغة المستخدمة، والتعامل مع بعضهم، وليس انتهاءً بطريقة الأكل. ونتيجة للترابط والاحتكاك ما بين المجتمعات والأفراد، أدى هذا إلى ظهور سلوك "الطاعة". و ترتب على هذا ظهور الدولة "المطلقة"، "Absolute State"، واحتكار القوة "monopoly of power" .

وفي الجزء الثاني من الكتاب يناقش إلياس سيرورات تشكل الدول باستخدام منهج "الاجتماع التاريخي" (Historical Sociology)، والذي يشبه بشكل كبير منهج ميشيل فوكو. فهنا يربط تشكل الدول أولاً بالتغيّر في أشكال المعرفة، وثانياً بالتغيّر في السلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة وعبر السيطرة على "الذات"، وثالثاً بالتغيير في الأخلاق والثقافة، حيث فسّر بأن المعرفة المشتركة وإزالة الاختلافات وزيادة التنوع في المجتمع يساعد الأفراد على خلق مصالح مشتركة يستفيد منها الجميع.

مَن يقرأ الكتاب سيجد أن هناك وجوداً لتشابه بسيط بين حالة غرب أوروبا وتطورها من العصور الوسطى وثم عصر النهضة إلى العصر الحديث، وحالة المجتمعات العربية. ربما لا تكون المقاربة صحيحة جداً، ولكن يمكن التركيز على نقطة مهمة وهي لماذا تطور سلوك الفرد في فرنسا وألمانيا وانجلترا بعد خوضه فترة عدم استقرار لأكثر من أربعمئة عام، ولم يتطور في المجتمعات العربية؟ وهل هذا يعني أن حالة عدم الاستقرار هذه في المنطقة العربية تتطلب فترة زمنية مشابهة كي تصل لمرحلة الاستقرار؟ التطور الحضاري، كما يقول إلياس، يجب أن يمر بمراحل تبدأ في سلوك الفرد وأخلاقه والتغيير في التركيبة الاجتماعية التي هي أصل تشكل الدولة.

(أكاديمي إماراتي)
المساهمون