كوشنر وغرينبلات وفريدمان في "واشنطن بوست": الخبث بصيغة مقال

20 يوليو 2018
يتناسى المسؤولون الثلاثة الإجرام الإسرائيلي بحق غزة(محمود همص/فرانس برس)
+ الخط -
نادراً ما تجسّد الخبث في مقال صحافي واحد من 764 كلمة فقط، مثلما تمكّن من فعله ثلاثي الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية التي تسمى زوراً "صفقة قرن"، جاريد كوشنر وجايسن غرينبلات ودايفيد فريدمان في "واشنطن بوست" أمس الخميس. بـ764 كلمة فقط، وبعنوان مضلل من نوع "المساعدة في متناول اليد للفلسطينيين. الأمر يعود لحركة حماس"، أدلى ثلاثي الرؤية الصهيونية داخل إدارة دونالد ترامب، بكل ما وجب قوله في إطار المحاولة الفاشلة حتى الآن لإقناع سكان قطاع غزة، من أنصار حركة "حماس" وحتى من معارضيها، بأن لا وجود لشيء اسمه احتلال وإجرام إسرائيليين، وأن "الكابوس" الذي يعيشونه، منذ سبعين عاماً، (نعم سبعين عاماً بحسب المقال)، سببه إدارة "حماس" للقطاع، لأنها فازت بانتخابات اضطر الغرب للاعتراف بأنها راعت معايير النزاهة والشفافية في الاقتراع وفي فرز النتائج.

هكذا يصبح عمر الحركة وإدارتها لغزة 70 عاماً، لا 31 عاماً، في خلطة أخرى يختصرها مقال كوشنر ــ غرينبلات ــ فريدمان للجهل والوقاحة والخبث في إطار الإيهام بأن قطاع غزة قبل انتخابات 2016، كان جنة على الأرض، ولم يكن يعاني أياً من مظاهر "الكابوس" الذي يتحدث عنه كتبة المقال، وأن تلك المنطقة الفلسطينية لم تكن محتلة مباشرة من الجيش الإسرائيلي الذي اضطر إلى الانسحاب منها في صيف 2005.

ولأن التزوير والوقاحة بحاجة لجرعة إضافية من قبل المكلَّفين الأميركيين الثلاثة بإخراج تصفية القضية الفلسطينية، تجدهم يضربون على وتر "نظرية" السلام الاقتصادي على اعتبار أنه "لا سبب لمنع السلطة الفلسطينية في غزة والضفة من الاستفادة من النجاحات الاقتصادية والانخراط في الاقتصاد الإقليمي ــ في حال سمحت لنا بمساعدتها ــ لأن الأمن الاقتصادي يساوي الأمن القومي". ولا شك أن تكرار كلام ترامب وقبله بكثير، أطروحات شمعون بيريز، في مقايضة حرية الشعب الفلسطيني وحقه بإنشاء دولته (الحقيقية)، بإغراءات اقتصادية تنموية، كانت بحاجة لمصطلحات خاصة بمن يشعر بفائض القوة لطرح طي ملف شعب، يملك الثلاثي الأميركي من الوقاحة المطلوبة حتى يقول إنه لا يحق له أن تكون له دولته المستقلة على حدود العام 1967 على الأقل، وهو للتذكير، ما تبنّته ضمنياً حركة "حماس" من الدوحة في وثيقة مايو/أيار 2017. لكن في حينها ماذا كانت النتيجة؟ مسارعة أميركية لتوسيع تصنيف الحركة على لوائح الإرهاب، وزيادة وتيرة الحرب ضدها.

إذاً، سبب موت الفلسطينيين في غزة، (موضوع المقال العتيد)، وجوعهم وظلمهم وفقرهم وسلب حريتهم وأراضيهم وتدمير ممتلكاتهم ومحو تاريخهم، لا هو القصف الإسرائيلي، ولا هو الاحتلال، ولا هو الحصار المستمر منذ 12 عاماً، ولا هو إنكار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته، ولا هو الدعم الأميركي التاريخي لآلة القتل الإسرائيلية ولا هو استمرار وجود الاستعمار الأطول في تاريخ البشرية. السبب لا هذا ولا ذاك، بل إدارة حركة "حماس الإرهابية" طبعاً للقطاع. وبعملية منطقية بسيطة، يسير مانيفستو الثلاثي الأميركي (الإسرائيلي عملياً) إلى خلاصته التي خرج بها من جولة الأيام الستة في المنطقة الشهر الماضي: إطاحة حركة "حماس"، إن تعذّر استسلامها، هي الحلّ لإخراج 53 في المائة من الغزيين من خط الفقر ومن بطالة الـ49 في المائة ممن لا ينام معدّو "مقال" كوشنر ــ غرينبلات ــ فريدمان لياليهم قلقاً عليهم، مع علمهم بأن مقالهم يلي بأيام قليلة إغلاق كافة المعابر الإسرائيلية والمصرية على القطاع وسكانه المليونين.


لا حاجة لكبير جهد حتى يلاحظ قارئ مبتدئ أن كوشنر وغرينبلات وفريدمان ربما لم يكتبوا يوماً مقالاً صحافياً أو دراسة جدية قبل أن يقرر رئيسهم تكليفهم بحلّ أكبر عقدة وجودية في التاريخ الحديث والمعاصر. كذلك لا داعي للتمحيص بهدف ملاحظة الدعم العربي الرسمي الكبير الذي تنطلق منه وقاحة المقال وما يذهب إليه، ذلك أن "على حماس التوقف عن مهاجمة الإسرائيليين والمصريين". هنا أيضاً يبدو واضحاً جهل كتبة المقال وكأنهم لا يعلمون أن مصر ــ السيسي لا تحتاج لمن يحرضها على كل حال ضد كل ما يمت بأي طرح فلسطيني لإنهاء الاحتلال أو إقامة دولة على أراضي العام 1967، إلا إن كان المقصود من كلمة دولة، مقاطعة أقل من دويلة شبيهة بما تتضمنه خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية.

ولمّا كان التعويل على مصر وحدها غير كافٍ في سياق تصوير عزلة "حماس" عن الشعب الفلسطيني وعن محيطها العربي والإسلامي، كان بديهياً بالنسبة لصهاينة البيت الأبيض الثلاثة، أن يذكّروا بـ"القناعة التي صارت موجودة عند الجميع تقريباً في الشرق الأوسط بأن وجود دولة إسرائيل حقيقة نهائية، حتى أن كثيرين صاروا يرحبون بذلك". وربما لم يشعر كتبة المقال الموقّع باسم كوشنر وغرينبلات وفريدمان بحاجة لتسمية هذا "الجميع تقريباً في الشرق الأوسط"، من عواصم خليجية وغير خليجية تُحرج تل أبيب وواشنطن أحياناً كثيرة في المزايدة لناحية ضرورة إنهاء الملف الفلسطيني وفق "حلم ترامب" الذي أظهر ابتسامة قلّ نظيرها على محيا عبد الفتاح السيسي ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان عندما حدثهم عنه في مكتبه البيضاوي في أولى أيامه الرئاسية المشؤومة.

ربما كان يجب البدء بقراءة مقال كوشنر ــ غرينبلات ــ فريدمان من فقراته الأخيرة، ثم الصعود إلى بداية المقال، فهناك تكمن الفكرة الأصلية المطلوب من خلالها مغازلة السلطة الفلسطينية، لعلّها تخفف من شروطها مقابل الموافقة على "إملاء القرن". فمن ضمن وجبة الشروط الإسرائيلية التي يكتبها المسؤولون الأميركيون في بيانهم المسمّى مقالاً، يقع القارئ على ضرورة أن "تتوقف حركة حماس عن التسلح والعسكرة لتهتم بتنمية الاقتصاد الغزي وأن تسلم كل وظائف إدارة القطاع إلى السلطة الفلسطينية"، بما أن "المانحين الدوليين حائرون حول كيفية تقديم الدعم لقطاع غزة من دون أن يصل ذلك الدعم إلى حركة حماس". حقاً؟ هل لهذا السبب مثلاً يهاجم الثلاثي الأميركي العتيد "المجتمع الدولي" الذي "يكتفي بالكلام وبالإدانة من دون مواجهة الواقع"؟