كورونا.. موجة ثانية أقل رعباً

20 يوليو 2020
جزء من عمل لـ سامي بن عامر، من سلسلة "لمسة مميتة"، 2020
+ الخط -

لم تكد البشرية تستفيق من وقع صفعة الموجة الأولى من الفيروس سيّئ الصيت والذكر، حتى بات يتردّد في كل مكان خبر الموجة الثانية منه، بضراوة أشدّ من حيث أعداد الوفيات، وبخفّة أكبر في التسلُّل من حيث أعداد المصابين. وإذا اكتنف الموجةَ الأولى الكثيرُ من الخوف والغموض وانعدام القدرة على التنبّؤ، فإنّ الثانية جاءت منزوعة دسم الخوف والهلع، بجاهزية نفسية ساهمت الموجة الأولى في إحداث التهيئة لها.

كسر الناس قشرة بيضة الخوف، بالأخبار المكثّفة وبالتجارب الكثيرة حولها، يرافق ذلك كلّه رغبة دول كثيرة - من باب مكره أخوك لا بطل - في رفع القيود وتسهيل حياة الناس، استبدلت فيها الدول، إياها، شعارات "ابق في البيت" وأخواتها التي سمعناها طويلاً حتى باتت تلازمنا في الأحلام واليقظة، بشعارات جديدة تنسف المسحة الأمومية الأولى التي تخاف على أطفالها الصغار وتدفعهم إلى البقاء في المنزل تحت الأنظار... شعارات تؤسّس لأمومة جديدة، أكثر صلابة وأقلّ حنواً وحرصاً، إنها أمومة تدفع أطفالها الصغار/ المواطنين للركض إلى غابة الخوف والموت، لكن بتعليمات جديدة هذه المرّة، على شاكلة "كن حذراً" و"اتبع التعليمات" و"احم نفسك".

كُسرت قشرة بيضة الخوف بالأخبار المكثّفة والتجارب الكثيرة

يبدو سؤال توازن الاقتصاد والصحّة، سؤالاً أخلاقياً بحتاً تتردّد أصداؤه في كل مكان هذه الأيام، لا الدولة، في بعديها الوظيفي والرمزي قادرة على تحمل تكلفة الإغلاق الشامل تماماً من أجل وقف الفيروس وإحداث ما بات يُطلَق عليه بتسطيح منحنى العدوى، برسم الاقتصاد والمال، ولا هي قادرة على فتح كل شيء أمام الناس، والتسليم في المحصّلة بطغيان حضور الفيروس والاستسلام لمآلات نتائجه ومناعة قطيعه.

يتمثّل طغيان الحضور هذا في تسجيل أكثر من 12 مليون حالة مصابة بالفيروس في العالم هذه الأيام. وهي الحالات التي رُصدَت فقط. لكن التصوُّر بين الأطباء ومنظمات صحية فاعلة، أن مئات الملايين في العالم مصابون، لكن لم يُفحَصوا أو لم تظهر عليهم الأعراض. إلى جانب شكوك حقيقية في قدرة الدول على وقف الفيروس. الفيروس إما أن يتوقّف بسبب عامل مناخي، ارتفاع درجات الحرارة مثلاً، وهذا ما تدحضه موجة هذه الأيام، أو لا يتوقّف بالمرّة. وبالتالي تتمدّد الجائحة، لتصيب معظم سكّان الكرة الأرضية، ونصل إلى حالة مناعة القطيع، وهي حالة لا تطلب إذناً أو موافقة من أحد بالمناسبة، أي مسألة وقت لا أكثر. (الناس تتحسّس من مفردة قطيع، لاعتبارات تقدير الذات والخسائر البشرية المحتملة كنتيجة)، وهذا ما حدث مع معظم الفيروسات السابقة، وتحديداً الإنفلونزا.

لا شيء في هذه الأوقات يشبه أي شيء من الأيام الماضي

ثمّة شكوك تطلّ برأسها في كل مكان، في قدرة دول العالم الآن على إحداث حالة تسطيح المنحنى والوصول إلى السيطرة المطلقة على الحالة، إذ لا مؤشّرات على إحداث ذلك، وفق خبراء، ولا أدوات فعّالة في المتناول، في القريب المنظور على أقل تقدير.

وفي هذا المنظور القريب، لكن إلى الخلف، لا شك في أن كورونا بوصفه حديث العالم وخطره المحدق من كل اتجاه، غيّرنا جميعاً، هذه الدفقة القوية من الانتظار على مدار أربعة أشهر، أحدثت لدينا صدمة من نوع ما، هذه الدفقة الصادمة من الغموض اللذيذ؛ إحساس أننا نقف جميعاً على مفترق طرق، فعلت الأفاعيل فينا، هذه الحياة الجديدة كلها، المشاعر الجديدة، الهواجس الجديدة، أحدثت لدينا شرخاً عميقاً بين حياتنا السابقة وما نعيشه هذه الأيام، لا شيء في هذه الأوقات يشبه أي شيء من الأيام الماضي، صرنا مثل الأطفال، نمشي بين الأشياء ونتلمّسها بدهشة الاكتشافات الجديدة ومتعة اقتحام حدودها، نتعثّر فيها، نتحسّسها، نتأكّد من سلامتنا إزاءها. لم نختبر من قبل هذا القلق على سلامتنا الشخصية وسلامة من نحبهم بهذا الضُّعف والاستسلام.

على المستوى السمعي، لا يشير اسم كورونا إلى مرض خطير أو حالة مروّعة. لا يفعل الاسم ذلك؛ إذ إنّ الاسم تنقصه الحدّة المطلوبة، التهديد المطلوب، محض مفردة مائعة، رخوة، مفتوحة على الحياة الرغيدة، تحسّها قادمة من أفواه الأمّهات: يمّا روح جبلي 3 كيلو كورونا خضرا!
لا تتمثّل المفردة في الذهن أبعد من ذلك. 

على عكس مفردات مثل سارس وجمرة خبيثة وسرطان، تسمعها من هنا وتحسّ بأن الصوت يتوحّش على التهديد الشخصي المباشر، مسدّس مصوّب إلى رأسك أو كتفك أو ظهرك، لكنّ كورونا مفردة منزوعة دسم الرعب، مثل اسم لعبة أطفال، تمسكها بين يديك، ثم تلقيها بكل اللامبالاة إلى الأرض.

أتذكّر في الأوقات التي تلت ضربات الحادي عشر من سبتمبر، أيام المكاتيب الملغمة بفيروسات الجمرة الخبيثة التي كانت تصل تباعاً إلى البيت الأبيض، والمرّة الأولى التي سمعت فيها الكلمة، تخيّلتها مفردة بأنياب طويلة، أشواك، تلعب الأحرف فيها لعبة الحواف الحادة، تجرح السمع والوجدان. هذه الأيام، يبدو كورونا أكثر توحّشاً من السارس والجمرة الخبيثة، لكن المفردة/ الاسم تغرّد خارج اللعبة، مثل خروف مذبوح في مشهد جانبي لفيلم من أفلام حروب الفضاء.
صحيح أن البشرية ما زالت تمارس هوايتها بالابتسام والضحك أمام ذلك كلّه، تفرد ابتساماتها العريضة بالضحك أمام ضبابية اللحظة واستعصاء تجاوزها وثقل حضورها، لكن ذلك لا ينفي أن ندوباً كبيرة حدثت، أخذت مكانها في الروح والقلب والوجدان، مع كل الشك، أنها ستذهب بسهولة، في القريب المنظور، على أقل تقدير.


* كاتب من فلسطين

المساهمون