قدري بريشتينا.. وعيٌ مبكر بقضايا الإسلام في ألبانيا

18 اغسطس 2024
قدري بريشتينا عام 1920
+ الخط -

تمرّ، العام المقبل، الذكرى المئوية الأُولى لرحيل المفكّر والسياسي الألباني قدري بريشتينا (1878 - 1925) الذي ينتمي إلى الجيل المخضرم الذي عايش أفول الدولة العثمانية وتأسيس الدولة الألبانية، والذي تخلّى عن لبس العمامة من دون أن يتخلّى عمّا كانت تُمثّله، وهو يُسهم آنذاك في تأسيس أوّل دولة أوروبية بغالبية مسلمة. وفي هذا السياق، أسهم بأفكار رائدة في النقاش العامّ الذي انطلق في السنوات الأُولى من عمر الدولة الألبانية حول العلاقة بين الإسلام والتخلّف/ التقدّم، والدعوة إلى التخلّي عن الإسلام بحجّة أنّه سبب التخلّف الموروث من الحُكم العثماني الطويل.

وُلد قدري بريشتينا Kadri Prishtina في مدينة بريشتينا لتاجر صغير (لطف الله بريشتينا) عُرف باهتمامه بالحركة القومية الألبانية. وقد انخرط في المدارس العثمانية الجديدة التي كانت تؤسّس وفق النظام الجديد (الابتدائية والرشدية)، ثمّ التحق بالمدرسة الثانوية في اُسكوب عاصمة ولاية قوصوه (كوسوفو). وبعد تخرّجه أرسله والده إلى إسطنبول في خريف 1896 لمتابعة الدراسة، بسبب ما لمسه من اهتمام لديه، فانتسب إلى "دار المعلّمين"، حيث درس التربية وعلم النفس والتاريخ والأدب وغيرها. وقد شعر الشاب قدري بالحاجة إلى المزيد من الدراسة، فالتحق بـ"مدرسة الفاتح" المعروفة في المدينة، حيث نهل من العلوم الدينية (علوم القرآن والحديث والفقه... )، وأتقن العربية والفارسية، ولبس العمامة، فاشتهر من ذلك الوقت (1903) بلقب "الخوجه" أو الشيخ، ولم يكتف بذلك، بل إنّه في 1903 انتسب بالمراسلة إلى دراسة الحقوق، ونجح في الامتحانات المطلوبة حتى 1904، وحصل على لقب "أستاذ". ونظراً لما أبداه من تفوّق، عُيّن في محكمة التمييز التابعة لمجلس الدولة في إسطنبول.

وخلال إقامته في إسطنبول، اتّصل الشيخ قدري بالنخبة الألبانية الموجودة في العاصمة (خوجه تحسين أوّل رئيس لجامعة إسطنبول وشمس الدين سامي صاحب قاموس "الأعـلام" وغيرهما) التي أصبحت نواة للحركة القومية الألبانية المطالِبة بالحقوق الثقافية (الاعتراف باللغة الألبانية وحقّ التعلّم بها ونشر الكتب فيها)، والتي أصبحت الدولة تتابع بقلق امتدادها إلى الداخل البلقاني وارتباطها بالعمل المسلّح في السنوات الأُولى من القرن العشرين.

وجد نفسه في "دولة قومية ألبانية" حلم بها، لكن بلا كوسوفو

وفي هذا الإطار، أُلقي القبض على الشيخ قدري في نيسان/ إبريل 1904 بتهمة القيام بنشاطات معادية للدولة وأُودع السجن في "يدي قوله" بإسطنبول، حيث بقي هناك حتى الثورة الدستورية في 1908. ومع اندلاع الحرب البلقانية في خريف 1912 وخسارة الدولة العثمانية لمعظم أراضيها في البلقان، لم تتحمّل سلطة "الاتحاد والترقّي" نقده في الصحافة، فألقت القبض عليه وأرغمته على ركوب سفينة مغادرة لإسطنبول لنفيه خارج الدولة. وبعد رحلة طويلة مع هذه السفينة قادته إلى موانئ فلسطين ومصر ورومانيا، وصل إلى ميناء دورس Durrës الألباني في ربيع 1914.

وصل الشيخ قدري إلى ألبانيا في وقت مضطرب. فقد كان زعماء الألبان قد أعلنوا الاستقلال في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1912 في مدينة فلورا Vlora الساحلية، المدينة الوحيدة التي بقيت خارج احتلال الجيوش البلقانية، ولكنّ مصير ألبانيا (وحدودها) بقي معلّقاً بين خلافات الدول الأوروبية المعنية (النمسا وإيطاليا وروسيا وبريطانيا) إلى أن جرى التوصّل إلى حلّ وسط في صيف 1913 يتمثّل بدولة ألبانية مستقلّة تشمل حوالى نصف الألبان وتُبقي النصف الآخر في الدول المجاورة التي توسّعت نتيجة للتسوية الجديدة (صربيا والجبل الأسود واليونان).

وهكذا وجد الشيخ قدري نفسه في "دولة قومية ألبانية" كان يحلم بها مع مجايليه، ولكنّ موطنه (كوسوفو) بقي خارج هذه الدولة، بعد أن تقرّر ضمّه إلى صربيا حسب التسوية المذكورة.

ومن ناحية أُخرى، كانت الدول الأوروبية الكبرى قد أعلنت تعيين الأمير الألماني وليم فون فيد W.von Wied مَلكاً على ألبانيا، التي أصبحت تحت انتداب الدول المذكورة بإشراف "لجنة الرقابة الدولية"، التي وضعت أوّل دستور لألبانيا في نيسان/إبريل 1914 أصبحت ألبانيا بموجبه دولة علمانية.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى انهارت "مملكة ألبانيا" وأصبحت أراضيها تحت احتلال عدّة جيوش وبرزت بعد الحرب عدّة جهات تدّعي تمثليها. وقد شارك الشيخ قدري في مؤتمر الإنقاذ القومي الذي عُقد بمدينة لوشنيا Lushnja عام 1920 بهدف تشكيل حكومة تُمثّل الألبان وتُنقذ ألبانيا من المخاطر التي تُهدّدها. وقد اختير الشيخ قدري من قبل المؤتمر وزيراً للعدل في الحكومة الجديدة، تقديراً لمكانته في الحركة القومية الألبانية.

وفي آذار/ مارس 1921، شارك الشيخ قدري في أوّل انتخابات برلمانية في ألبانيا، وفاز فيها عن المدينة التي استقرّ فيها (شكودرا Shkodra) القريبة من موطنه الأصلي (كوسوفو). وفي البرلمان الألباني الجديد، الذي انتُخب فيه نائباً للرئيس، كان فيه المعمّم الوحيد. وقد عُيّن، بعد أن تخلّى عن العمامة، وزيراً للعدل في حكومتين لاحقتين، كذلك أُعيد انتخابه للبرلمان الجديد (المجلس الدستوري) في خريف 1923، حيث اختير عضواً في اللجنة التي كُلّفت وضع دستور جديد لألبانيا. وخلال هذه الفترة توجّه إلى الصحافة؛ حيث أصدر مجلّة "سبيل الحقيقة" وأخذ ينهمك في الكتابة والسياسة، ما أثّر بصحته في نهاية 1923 وطوال 1924 و1925 وأودى به في 20 كانون الأوّل/ ديسمبر 1925.

كتاب الخوجة قدري بريشتينا - للموقع
كتاب "الخوجه قدري بريشتينا" لكمال مورينا

بقي قدري بريشتينا شبه غائب في موطنه الأصلي بسبب مطالبه بضمّ كوسوفو إلى ألبانيا، ولكن بعد قيام التعدّدية السياسية في يوغسلافيا السابقة في نهاية 1989، بدأت الصحف والمجلّات ودور النشر تنشر الكثير عنه. وفي هذا السياق، صدر عنه في 1992 أوّل كتاب لأكبر سكندي بعنوان "الخوجه قدري بريشتينا"، وفي عام 2000 صدر كتاب آخر بعنوان "الخوجه قدري بريشتينا" لكمال مورينا.

يختلف الكتاب الثاني عن الأوّل في كون المؤلّف كمال مورينا (1951 - 2019)، الأستاذ في "كلّية الدراسات الإسلامية" ببريشتينا، أوّل من كشف عنه مفكّراً إسلامياً حداثي معنيّاً بمواجهة الأسئلة الكبرى المطروحة عن علاقة الإسلام بالتخلّف الموروث والدعوة إلى التخلّي عنه للحاق بالتقدّم الأوروبي بالاستناد إلى مقالاته في جريدته "سبيل الحقيقة"، التي نشرها في مجلّة "المعرفة الإسلامية" خلال 1997، وأعاد نشرها ضمن كتابه الجديد الذي حظي بالاهتمام.

ففي مثل هذا الوضع الانتقالي في ألبانيا المستقلّة، وفي مثل هذا المناخ الفكري/السياسي بين التركة العثمانية والحداثة الأوروبية وجد قدري نفسه مدعوّاً إلى المساهمة في خوض النقاش الدائر حول الإسلام وثنائية التخلّف/التقدّم، معتمداً في ذلك على تكوينه العثماني وتراثه النضالي الذي جعل منه اسماً محترماً، ودوره السياسي الجديد (في البرلمان والحكومة)، ما كان يؤهّله أكثر من غيره لذلك.

ويبدو أنّ قدري أراد لذلك أن يسمّي جريدته التي أنشأها آنذاك (1923) باسم "سبيل الحقيقة" لكي يعبّر عمّا يريد أن يقوله في هذا المجال. ويلاحَظ هنا أنّه وضع تحت العنوان ما يشير إلى أنّ "سبيل الحقيقة" هي "مجلّة دينية سياسية أدبية"، وهو ما له مغزاه في ذلك الوقت. فباعتباره من النخبة المثقفة المسيّسة، كان الشيخ قدري يريد أن يؤكّد أنّ المسلمين في ألبانيا الجديدة يحتاجون إلى أكثر من مجلّة دينية (تقتصر على شؤون الدين) لكي يعيشوا العهد الجديد (ما بعد العثماني/ الأوروبي الحديث) الذين وجدوا أنفسهم فيه ضائعين وسط التجاذبات والتماوجات بين ثنائية التخلّف والتقدّم.

ومن هنا لم يكن بالمستغرب أن يخصّص قدري افتتاحية العدد الأوّل من المجلة لهذا الموضوع بالذات، ألا وهو تخلّف المسلمين وأسبابه. وينطلق في هذه الافتتاحية بالقول إنّه "حسب المبادئ السليمة والعظيمة التي يتضمّنها هذا الدين يجب على المسلمين حيثما هُم في العالم أن يكونوا أكثر الناس تقدّماً في المدينة، وأن يكونوا متجمعين حول مجتمع منظّم، ولكن للأسف أنّ المسلمين اليوم متشتّتون ولا يمتلكون أيّ أساس للتنظيم. إن مثل هذا الوضع لا نجده في ألبانيا فقط، بل في أقصى أطراف المعمورة".

خصّ بالانتقاد من سمّاهم "أنصاف العلماء" و"أدعياء الثقافة"

ومن الطبيعي أن يحاول قدري البحث في أسباب مثل هذا الوضع التي يجدها في "الخلافات والحروب بين المسلمين، ونزعة الأخذ بالثأر المتواصلة من معركة صفّين، واللامبالاة التي سيطرت على روح علماء الدين خلال تسعة قرون، والصدامات الدموية مع الحكّام، بالإضافة إلى ظلام الجهل الذي غطّى كلّ مكان في العالم الإسلامي".

ويربط بين الجهل وتزايد الخرافة بين المسلمين، حيث يقول: "كلّما ازداد الجهل في وسط المسلمين، دخلت في الدين الإسلامي خرافات وتقاليد متخلّفة لها أصولها المختلفة، ولكنّها وصلت إلى حدّ أنّها أصبحت تُعتبر من أصول الدين. وهذه الحالة استمرّت للعجب 7-8 قرون، حيث ظهر في منتصف القرن الثالث عشر بعض العلماء الذين دعوا المسلمين إلى المبادئ البسيطة للقرآن والحديث وإلى التخفّف من تلك الخرافات والعادات والتقاليد التي أُخذت من الشعوب المختلفة".

ويلاحَظ هنا أنّ قدري ينتقد من يسمّيهم "أنصاف العلماء" الذين يعتبرهم مسؤولين عن الحالة التي وصل إليها المسلمون، وهُم الذين "يلبسون ملابس العلماء" و"يتابعون الدروس المتوارثة من القرون الوسطى التي لم تعد منسجمة مع معارف وحاجات العصر". وفي المقابل، يرى أنّ طرفاً آخر يتحمّل مسؤولية هذا الوضع، يتمثّل بـ "أدعياء الثقافة" الذين وصلوا إلى سبيل آخر تحت تأثير إشعاع المدنية الغربية المصطنعة الحالية والحياة الأوروبية الإباحية: اللامبالاة إزاء أمور العقيدة"، فهو يرى أنّ "أكبر ضرر لأدعياء الثقافة هو أنّهم أصبحوا أداة ووسيلة لنشر الأفكار ضدّ الإسلام، المأخوذة من الأوروبيين ومن أعداء الإسـلام".

ومن القضايا الحسّاسة المرتبطة بثنائية التخلّف/التقدّم، التي كان قدري أوّل من تناولها في العدد الثاني من المجلّة، دعوة المسلمين في ألبانيا إلى العودة إلى المسيحية، على اعتبار أنّ الإسلام هو دين التخلّف. وفي الواقع أن قدري إنّما كان يردّ بذلك على ما جاء في المجلّة الشهرية الكاثوليكية "لايمتاري" Lajmtari (عدد تشرين الأوّل/ أكتوبر 1923) التي دعت المسلمين وخصوصاً مسلمي ألبانيا إلى العودة إلى المسيحية. وينطلق قدري في ردّه من زاوية تاريخية وتجربة ناجحة يعتبرها جديرة بالاهتمام والاستمرار؛ فهو يرى أنّ التعدّد الديني هو واقع ألبانيا، وما يميز هذا الواقع مقارنةً بالشعوب البلقانية المجاورة هو الانسجام والتسامح الديني بين الألبان، ولذلك يَعتبر أنّ مثل هذه الدعوة إلى "عودة المسلمين وخصوصاً في ألبانيا إلى المسيحية" يمكن أن "تؤدّي إلى نسف هذا الانسجام وهذا التعايش الديني بين الألبان". وينظر الشيخ قدري إلى هذه القضية من زاوية عالمية أيضاً، إذ يقول إنّ "البوذيين سيدعون بدورهم المسلمين إلى اعتناق البوذية بما أن المسيحيّين يدعونهم إلى ذلك، ما سيؤدّي إلى ردّ فعل عند المسلمين وإلى نزاع لا يمكن تصوّر حدوده".

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الدعوة التي كان يمكن آنذاك أن تنسف الاستقرار في ألبانيا الوليدة، والتي عرف كيف يعالجها الخوجه قدري بحكمته، قد تجدّدت ثانية في العقد الأخير من القرن العشرين في لحظة انتقالية جديدة في ألبانيا (من الشيوعية إلى الديمقراطية) وأثارت الكثير من الحساسيات التي أثبتت صحة الرؤية المبكرة للشيخ قدري.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون