كوبا الآن، وماذا بعد؟
عودة الحرارة إلى خط العلاقات الكوبية الأميركية كانت مفاجأة لبعضهم ومتوقعة لآخرين. ففي السياسة الدولية، لا مفاجآت إلا في المظاهر. وفي المضامين، الترتيبات تسبق والتحضيرات تُمهّد والاتصالات تتكثّف والرسائل تُتبادل والمؤشّرات تتلاحق. وما أدلّ على ذلك إلا افتتاحيات كبريات الصحف الأميركية منذ أشهر، والتي توجّتها "نيويورك تايمز"، في الخريف الماضي، بمقالة "حان الوقت لإنهاء الحصار على كوبا".
حصارٌ امتد منذ 1962، وتلا قطع العلاقات الدبلوماسية سنة 1961. وفي حينها، اعتبر الرئيس جون كينيدي أن من يحكم كوبا "ليسوا أهل البلاد، وإنما دمى في أيدي قوى خارجية". مشيراً إلى الحماية المباشرة التي حازت عليها الجزيرة من الاتحاد السوفييتي بعد فترة قصيرة من انطلاقة ثورتها، بقيادة فيديل كاسترو سنة 1959.
ومنذ تبوأ راؤول كاسترو، الشقيق الأصغر لفيديل، الحكم "وراثياً" سنة 2006، بعد اشتداد مرض الزعيم "الأوحد"، صدرت التعليمات بتخفيف اللهجة العدائية "للشيطان الأكبر" الأميركي. وبادرت الإدارة الأميركية إلى تخفيف حدة العقوبات في بعض الملفات تجاه كوبا. كما لعب البابا فرانسوا دوراً مهماً، من خلال التواصل مع الرئيسين أوباما وكاسترو. وقد حثّهما، مدعوماً من دبلوماسية فاتيكانية هي الأكثر سرية (فعالية؟) في العالم، على فتح قنوات التواصل عبره، وهذا ما حصل فعلاً، وأدّى إلى نتائج ملموسة.
وتوجه الرئيسان الأميركي والكوبي بخطابين متلفزين، ليعلنا عن عودة العلاقات في التوقيت نفسه. مع إشارة كليهما إلى صعوبات عدة سيحاولان تجاوزها، خصوصاً في مجالي حقوق الإنسان والديمقراطية. وقد كان أوباما "منطقياً" في قوله لصحافي أميركي إن لدولته "علاقات جيدة مع الصين الشيوعية وفيتنام، ولا يرى مبرراً لاستمرار سوئها مع كوبا". وقد طلب من وزير خارجيته دراسة كيفية رفع اسم كوبا من لائحة الدول "الداعمة للإرهاب".
كان الحصار المفروض على كوبا مرتبطاً بالحرب الباردة والمواجهة مع السوفييت. وكان الضحايا هم الشعب الكوبي، حيث استفادت النخبة "الشيوعية" الحاكمة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، من هذه الظروف لاكتناز الأموال ونهب المقدرات وإفقار الشعب وزيادة قمعه بحجة العدو الخارجي. كما في كل البلدان التي تعاني، أو كانت تعاني، من حصارٍ داخلي متمثّلاً بدكتاتورييها (إيران خامنئي وعراق صدّام حسين مثالين)، يقابله ويدعمه ويقوّيه حصارٌ خارجي، ليست حقوق الإنسان والحريات من أولوياته بالتأكيد.
زال الاتحاد السوفييتي وتطورت الدبلوماسية الأميركية في طريقة نظرتها إلى أنجع السبل في فرض السيطرة. كما أن أوباما، قبل الرحيل القريب في 2017، يريد تسجيل ما يستطيع من نقاط في سجله "السلمي" و"التصالحي"، ولو اعتبر منتقدوه أن ذلك يجري على حساب المبادئ والمصالح. وتدخل في إطار هذا السعي، خطواته المتسارعة مع إيران، كما في إشاحته النظر عن تعقيدات منطقة الشرق الأوسط ومآسيها. وكما يبدو، أيضاً، أن هذه الخطوة تأتي في إطار "المناكفة" مع الكونغرس، المنقلب حديثاً إلى صف الجمهوريين بغرفتيه، والذي بدأ بانتقادها، مستنداً إلى دعم اللوبي الكوبي في أميركا (1.7 مليون) الأكثر ميلاً إلى اليمين. وتبقى الإشارة إلى أن إعادة العلاقات هي من صلاحية الرئيس "الديمقراطي"، ولكن إنهاء العمل بالحصار فمن صلاحية الكونغرس "الجمهوري"، ما يُنبئ بتعقيدات جديّة ستواجه هذا المسار.
في المقابل، فهمت المخابرات الكوبية، الأكثر احترافية من بين نظيراتها في جنوب أميركا، بحصافة، مآل الأوضاع التي تعيشها الجهة الداعمة الأخيرة إقليمياً لنظامها، والمتمثّلة بالحكومة الفنزويلية. فالأداء الاقتصادي الفاشل في كاراكاس، كما الانهيار المالي المرتبط بسوء الإدارة والفساد المنهجي، إضافة إلى انهيار سعر البترول، جعلت كلها من فنزويلا بلداً "داعماً"، يبحث عمّن يدعمه. وبالتالي، فطن الكوبيون إلى أنهم غير قادرين، بعد أن تلقوا ضربة أولى قاسية، بزوال داعمهم الرئيسي الاتحاد السوفييتي، على تجاوز ضربة ثانية قادمة في قريبٍ ليس بعيداً، والتي ستُترجم بعجز فنزويلا عن الاستمرار في دعمهم.
قرأ الطرفان التغيرات الجارية على الساحة الدولية "بحنكة". وسيسعى أوباما، فيما تبقى له من وقت، لمواجهة الكونغرس سعياً إلى رفع الحصار. وهو يعوّض في هذا "الإنجاز" عن عجزه عن حل ملفات داخلية كثيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالإصلاحات الاجتماعية والصحية، حيث تشير الأرقام إلى تنامي الهوة بين الفقراء والأغنياء. وعلى الرغم من كونه الأسود الأول في البيت الأبيض، إلا أنه عجز عن تسجيل أي تقدم في ملف العنصرية المتنامي في أجهزة الشرطة، واكتفى بمناشدة خجولة لعناصرها لضبط النفس. حيث يقول عنه الكاتب الأميركي الكبير، ريتشارد فورد، إنه نجح داخلياً فقط في إقرار "زواج المثليين"، و"فشل كرجل دولة".
على الرغم من سعي أوباما إلى تسجيل انتصار رمزي خارجي في مقابل فشله الداخلي عموماً، إلا أنه سيواجه بمقاومة الكونغرس في ملفي كوبا وإيران. ويبدو أن الأمر أكثر سهولة كوبياً، حيث تخلّى قادة كوبا فعلياً عن الشيوعية، وهم في مسار تحرير اقتصادهم، بطريقة عشوائية، تفيد عصبتهم أولاً. ليرقد تشي غيفارا بسلام، فرفاق الأمس ليسوا رفاقاً إلا في نظر "يسارٍ" عربيٍ ضامرٍ.