إثر الإعلان عن تقديم توصيات الخبيرَين؛ الفرنسية بينيدكت سفوا والسنغالي فلوين سار، إلى الرئاسة الفرنسية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بإعادة آلاف المصنّفات الفنية والثقافية التي نهبتها فرنسا من مستعمراتها السابقة إلى بلدانها الأصلية، أعلنت الرئاسة الفرنسية أنها ستُعيد، من دون تأخير، 26 مصنّفاً من هذا النوع إلى بينين (داهومي سابقاً) كان الجيش الفرنسي نهبها عام 1892، في خطوةٍ اعتُبرت حركةً رمزية للضغط على القوى الاستعمارية الأخرى لإعادة ما استولت عليه من مصنّفات أفريقية.
بعد ذلك، تعالت أصوات الدول المطالبة باسترداد كنوزها، ليس من فرنسا فقط، بل ومن بقية الدول الأوروبية ذات الماضي الاستعماري المميَّز بسرقة ونهب كنوز مستعمراتها السابقة؛ مثل بلجيكا وألمانيا وبريطانيا، سواءً كانت مصنّفات فنّية ثقافية أو ثروات طبيعية، إضافة إلى عمليات تدميرها أحياناً، حين كان يتعذّر نقلها.
حكومة كوت ديفوار (ساحل العاج) بادرت إلى وضع قائمة تتضمن مئة مصنّف هي الأكثر شهرة، تحتفظ بها المتاحف الفرنسية، وقال الناطق باسم حكومتها، وزير الاتصالات، سيدي تور، إن هذه القائمة ستُرسَل إلى اللجنة المعيّنة من قبل الحكومة الفرنسية للنظر في طلبات الاسترداد. كما دخلت السنغال على الخطّ، فطالبت فرنسا بإعادة كلّ المصنفات والآثار التي أُخذت منها، ولحقت بها نيجيريا التي تُطالب بريطانيا بإعادة عادياتها البرونزية والذهبية المنهوبة، والمعروضة في "المتحف البريطاني".
ولم تتأخّر إثيوبيا في مطالبة بريطانيا بإعادة ما نهبه جيشها من مجوهرات ومخطوطات من قلعة "ماجدالا" عام 1868، وهي كنوز موجودة الآن في "متحف فيكتوريا وألبرت" في لندن، ورفضت عرض المتحف إعادة هذه الكنوز على سبيل الإعارة لمدّة طويلة الأمد.
عربياً، بدأت بعض الأصوات ترتفع أيضاً؛ حيث تطالب حكومات وشعوب عربية بتفعيل الأمر نفسه، باسترداد كنوزها المنهوبة بشكل رسمي، مثل مصر والعراق وسورية ولبنان وفلسطين والجزائر، وبقية البلدان العربية في المشرق والمغرب التي لم تفلت من استعمار هذه الدولة الغربية أو تلك، ولم تسلم كنوزها من عمليات النهب والتدمير طوال القرنين الماضيين، والتي ما زالت متواصلة حتى الآن.
في ضوء هذه النقاشات المتصاعدة، بدأت تتكشّف صفحات تكاد تكون مجهولة من تاريخ النهب الاستعماري، وتتعالى أصوات سياسيّين آخرين، بالإضافة إلى صوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تطالب علناً بإعادة ما نهبته القوى الاستعمارية، مثل زعيم "حزب العمال" البريطاني جيرمي كوربن الذي وعد البلدان الأفريقية بإعادة كنوزها إليها حين يصبح رئيساً للوزراء.
هكذا، راحت تهاوى الحجج التي دأب الأوروبيّون على طرحها طيلة سنوات لتبرير الاحتفاظ بهذه الكنوز الفنية، وأبرزها الحجّة القائلة بأن البلدان الأفريقية لا تمتلك الوسائل الكفيلة بضمان العناية بتراثها الثقافي، بعد أن قامت الكثير منها ببناء متاحف؛ مثل السنغال وساحل العاج والغابون وبينين، وهذه الأخيرة لديها خطط لبناء المزيد بعد أن اعتبر رئيسها الحالي، باتريس تالون، السياحة أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وصادق على بناء خمسة متاحف سيفتتحها عام 2020، تكريماً لملوك مملكة أوبومي، وفرقة "الأمازونيات" العسكرية المؤلَّفة من النساء فقط في تلك المملكة القديمة.
ومن المعروف، في هذا السياق، أن منظّمة "يونسكو" تبنّت عام 1970 اتفاقية بين الدول تمنع التصدير غير الشرعي للمصنّفات الفنية والثقافية، ودعت إلى إعادة ما يُكتشف أنه أخرج من بلد من البلدان بطريقة غير قانونية، إلّا أنها لم تضع في اعتبارها ما أُخرج من آثار المستعمرات سرقةً ونهباً في الماضي. وفي ظل المخاوف التي أبدتها المتاحف من إجبارها على إعادة المنهوبات التي لديها، تباطأت القوى الاستعمارية السابقة في التوقيع على هذه الاتفاقية، فلم توقّع فرنسا عليها إلّا عام 1997، ووضعت بريطانيا توقيعها عام 2002، وألمانيا في 2009.
ويبدو أن بعض مديري المتاحف، مثل مدير "متحف كيه برانلي" الباريسي، ستيفن مارتن، لا يزال يحمل في جعبته حججاً أخرى لتبرير الاحتفاظ بهذه الكنوز؛ فالرجل الذي يحتفظ متحفه بمجموعات هائلة من المصنّفات الفنية والثقافية المنهوبة من أربع مناطق هي أفريقيا وآسيا وجزر المحيط الهادي (أوقيانوسيا) والأميركيّتان، عَقّب على تقرير الخبيرَين (الفرنسية والسنغالي)، ومسارعة الرئاسة الفرنسية إلى اتخاذ خطوة رمزية بخصوص عاجيات بينين، بالقول: "إن تعديل القانون الفرنسي بحيث يسمح بإعادة المنهوبات إلى بلدانها الأصلية سيكون "بدعة" تعني منح دول أجنبية الحق في تقرير ما هو جزء من تراث فرنسا وما هو ليس جزءاً منه"، وعبّر عن أمله في أن "لا تسمح بإعادة قدر كبير من الكنوز الأفريقية".
ورأى مارتن أن أفضل استجابة للمطالبة باسترداد المصنّفات الأفريقية هو تمويل ودعم متاحف جديدة، والمساهمة في تداول هذه الأعمال على نطاق واسع، وليس إعادتها إلى أوطانها الأصلية كما يوصي تقرير سفوا وسار. ورفض أن يصف التقريرُ كل ما "جُمع" وجرى "شراؤه" في المرحلة الاستعمارية بـ"جرائم استعمارية"، وقال إن بعض المصنّفات جاءت عن طريق تبرّعات من أناس ذوي صلة بتلك المرحلة (أطبّاء ومديرون وجنود)، أو عن طريق عمل بعثات علمية، وضرب مثلاً بمجموعة بيير آرتر التي حصل عليها كهدايا من رؤساء قبائل في الكاميرون لقاء علاجه أفرادَ عائلاتهم.
على الجانب الآخر، يصرّ أصحاب هذه المصنّفات، ومنهم ماري- سيسل، رئيسة "مؤسّسة سنسويو للأعمال الفنية" في بينين، على أن عملية الاسترداد ليست "مجرّد استعادة أعمال فنية" أو "مجرّد استعادة كرسي عرش أو بعض الأقنعة"، بل هو "استعادة بلدان أفريقية كرامتَها وجزءاً من تاريخها تعرّض للمحو على يد الاستعمار"، كما يرى آخرون أن وجودها في أوطانها ضروري لتنشئة الأجيال وتربيتها وتعميق وعيها بهويتها واعتزازها بمنجزات أسلافها.