كلاكيت نزوح

03 يوليو 2015
ريما سلمون / سورية
+ الخط -

ترفعُ حاجبيها وتغمضُ عينيها في محاولة متأخرة لمنع نفسها من البكاء. كيف خطر لها أنها لو قررتْ أن تهربَ يوماً مع آزاد لن تحتاج إلى اصطحاب أي شيء معها!

حاجياتُها الخاصة وذكرياتها الحميمة ستملأ كيسين كبيرين على هذه الحال: الإسوارة الفضية التي اشترتها من سوق المْدينة في آخر مشوار إلى حلب، زجاجة من الرمل الملوّن كُتِبَ عليها اسمها (زهرة) ابتاعتها من الحميدية في زيارتها اليتيمة إلى دمشق قبل سنوات، سيديات لينا شماميان وسي دي ابراهيم كيفو حفلة بيت الدين 2013، الشال الصوفي النيلي الذي نسيتُه جدتها هنا قبل أن تسافر إلى ابنتها في السويد وتموت هناك، والذي كان فقدانه، حسب تأكيدات الجدة، سبباً رئيسياً لعدم تحمّلها برد هذا البلد اللعين.

لم تنتهِ، عليها أن ترفعَ الفراش لتسحبَ رسائلَ آزاد ورسوماتِه. تلاحظُ على الخزانة صورتَها مع صديقاتها في ثانوية غرناطة في آخر يوم من العام الدراسي، تقتلعُها بسرعة وتدسُّها مع بقيّة الأغراض في حقيبتها الصغيرة.

تلاحظُ أيضاً صورةً مشكوكةً في إطار المرآة. إنها صورةُ العائلة كاملةَ النِّصاب مع المطران في صالة كنيسة مارجرجس يومَ العيد. تتجاهلُها وتتابعُ لملمةَ أغراضها. يصلُها نداءُ أمّها متآكلاً بفعل أصواتِ الانفجارات والرصاص:

- وركي زهرة، خلّـ...؟ استعجلي بنتي قامـ........ يالله

يزدادُ ارتباكها، ترفعُ حاجبيها وتغمضُ عينيها في محاولة متأخرة لمنع نفسها من البكاء. يدخلُ أبوها زائغَ البال والفكر والعينين، وبصوت ناشف يسألُ زوجته ألّا تنسى الجوازات وسندات الملكية.

- أبو عابد ليش تحسسني إّنا طالعين مو راجعين؟؟ كلها يومين وتنرجع

- أم عابد جيبي القلتولكي عليو. بيت أختك بحلب صرلن سنتين يقولون يومين وراجعين ولهلّا
..

تصفعُها جملةُ أبيها وتلمحُ آثار الصفعة على وجهِ أمها أيضاً. تُسرع إلى الصالون وتُكمِلُ عن أمها إقفالَ النوافذ وسحبَ أسلاك التلفزيون والكهربائيات. تفكّرُ في آزاد، في طوله وسمرته ويديه وصوته. تفكّرُ في الحاجز الذي يقفُ عنده، في زيّه وسلاحه، تتذكّرُ أولَ مرّة رأتْهُ فيها في هيئة مقاتل:

- ما حبيتوك أنت وعسكري، أنت ورسام أحلى.

- حبيبتي أنا دايم رسّام. وعسكري بس وقت يكون في حدا يريد يبعدني عنكي.

تفكّرُ في محادثتهما الأخيرة قبل ثلاثة أيام، كان متفائلاً ومتماسكاً رغم رجفة صوته وجمله القصيرة المختصرة. تذكرُ أنه في آخر الاتصال طلبَ منها وعداً أبدياً بالحب "أينما كانت زهرة ومهما طال غياب آزاد". وقتَها استغربتْ كلامَه وإلحاحَه على سماعها تحلفُ بالوعد:

.. آزاد ما قام أعرفك!! أيش فيك؟ أولاً مو بالساهل نترك الحسكة، تانياً أنا بحبك بحبك بحبك ياوو

تتذكّر وترفعُ حاجبيها وتغمض عينيها في محاولة لمنع نفسها من البكاء. يخرج الأب قليلاً ثم يعود ويبدأ بحمل الأغراض طالباً منها ومن أمها التحرك فوراً:

- الشوفير يلي تيوصلنا صايم وي ولازم نوصل عالقامشلي قبل الإفطار

تنفجرُ الأم كما لو أنها تنتظر هذه اللحظة منذ سَنَوات:

- صايم! وهلا وقت صيام وي؟ ليش تركنا مجال للرب يحاسبنا عالصيام وقلة الصيام ؟ توبة إلك يا رب تقول هالعال.....

- بس بس اسكتي. والله إزا سمعكي الزلمة تيبطل ياخدنا

في السيارة تلتصق زهرة بزجاج الباب الخلفي، تخفض رأسها عندما يطلب منهم السائق ذلك ثم تعود لرفعه بسرعة، لا تريدُ أن يفوتها أي شيء؛ أيّة حارة، أي شارع، أي دكان، أيّة مدرسة، أي حائط، أيّة شجرة، أي حاجز. حتى على حواجز هذه المدينة تتركُ الآن أشلاءً من روحها. وعلى حاجزٍ ما في منطقةٍ ما، في الصالحية أو العزيزية أو حيّ المفتي، تتركُ روحَها، كلّ روحها.

تُخفضُ الزجاج قليلاً وتمدُّ طرفَ أنفها في الهواء، تنشغلُ حواسها بممارسات الوداع، يهاجمُها الدمع فلا ترفعُ حاجبيها ولا تغمضُ عينيها ولا تمنعُ نفسها من البكاء.


* كاتبة قصة من سورية

دلالات
المساهمون