في فيلمها الأول "رحلة إلى حجرة الأم"، تتناول الإسبانية سيليا ريكو كلافلينو (1982)، بحسّ أنثوي، أبعادًا مُغايرة لعلاقة أم وابنة مُراهقة ووحيدة، خاصّة عندما تكون الابنة محور حياة الأم، والهدف الرئيسي الذي تُكرِّس الأم له كلّ حياتها.
للحبكة أبعاد وأصداء مُغايرة لتلك الموجودة لدى العائلات في المجتمعات الأوروبية، حيث تواجه العائلات، وأحيانًا تُوجِّه، الأبناء/ البنات إلى الاستقلال عنهم، والاعتماد على أنفسهم. المجتمعات العربية تُكرِّس الروح العائلية والبناء الراسخ للعائلة. المقارنة غير جائزة، فهي هنا مكتفية بالقول إن ما يطرحه الفيلم لا يمسّ الاجتماع العربي كثيرًا، ولا يُشغل باله الآن ربما. لكن، مع الوقت، لن يبقى عصيًّا على الفهم والاستيعاب، نظرًا إلى العمق الإنساني الكبير فيه.
أفلام أوروبية عديدة تناولت العلاقات الشائكة والمركّبة والمُرتبكة والمُربِكة بين الأهل وأبنائهم/ بناتهم في سنّ المراهقة، بما فيها من تقلّبات ومخاطر. لكنْ، هناك جديد ما في "رحلة إلى حجرة الأم"، الذي بفضله حصلت كلافلينو على تنويه خاص كأفضل مخرجة صاعدة، وعلى جائزة لجنة الشباب، في الدورة الـ66 (21 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان سان سيباستيان السينمائي".
عبر تصميم مناظر نفّذته وسيناريو كتبته، تدخل كلافلينو بلمسات أنثوية ساحرة إلى عالم الابنة ليونور (آنا كاستيلو) والأم استريلا (لولا دونياس). لمسات متمثلة باعتناء بالتفاصيل الصغيرة الموجودة في الشقّة التي تشهد معظم الأحداث: اعتناء بالألوان والأثاث ومكوّنات الـ"كادر". كما أنها تصنع حالة تناغم آسر بين السيناريو والأداء، وما يُحيط بهما من تفاصيل. هذا كلّه في فيلم متقشّف للغاية، فالميزانية محدودة، لكن المُشاهِد لن يلاحظ أية شائبة إنتاجية بفضل أداء رائع وسيناريو مكثّف.
المغاير كثير في الفيلم. لا مشاكل أو نزاعات أو زعيق أو ميلودراما أو تمثيل مُفتعلا للولا دونياس، ولآنا كاستيلو في كلّ ما يتعلق بطيش المراهقين وتبجّحهم وتطاولهم على الأهل. ليونور فتاة بالغة التهذيب والهدوء والرقة، وأمّها مثلها أيضًا. تنتميان إلى طبقة بورجوازية كادحة في إحدى المدن الإسبانية، وتعانيان معًا مشاكل الأزمة الاقتصادية. استريلا خيّاطة، تمارس المهنة في المنزل لمتطلبات الحياة، وليونور تحاول العثور على طريقها. تعمل في مصنع صغير للخياطة كانت تعمل والدتها فيه سابقًا. لا تهوى حياة الليل والسهر. لا صديق أو رفيق أو حبيب. صديقاتها قليلات. مُراهِقة شبه مُنغلقة، تفضِّل مشاهدة المسلسلات مع أمها. هكذا تبدو الأم أيضًا. العلاقة مثالية بينهما.
في مراهقتها، تبحث ليونور عن حياتها الخاصة. تريد استقلالها عن البيت. إنها وحيدة أمّها. والدها توفّي مؤخّرًا، تاركًا حُزنًا شفيفًا يُخيِّم على أرجاء المنزل. مع انتفاء الأصدقاء والدراسة، لا يوجد الكثير مما ينتظر ليونور. بقاؤها في المنزل إلى جانب استريلا حماية لها، خاصة مع براءتها الشديدة، البادية على وجهها وسلوكها ونبرة صوتها. لكنها تفاجئ أمّها بهذا الطلب. تنزعج استريلا، وتمتنع عن التحدث معها أيامًا عديدة. ما يصدم استريلا أن ابنتها ترغب في مغادرة المنزل والبلد، والانتقال إلى إنكلترا، لدراسة الإنكليزية، والعمل جليسة أطفال. يحين موعد عيد ميلاد ليونور، فتتقبل الأمّ الوضع. لا تقف في وجهها. لا جدال ولا نقاش حاداً ولا عراك. سريعًا، تبدآن التحضير للسفر. ثم، مع عودتها إلى المنزل الفارغ من ابنتها، تحاول استريلا الاعتياد على أنماط جديدة وعادات مختلفة، عاشتها مع ابنتها، فصارت حياتهما، ما يعني صعوبة التأقلم مع تغيّرها.
لم يأتِ السيناريو بجديد كبير في نصفه الأول. لا اختلاف في رؤية سيليا ريكو كلافلينو، باستثناء هذا الطلب غير المتوقّع من ليونور البريئة. بعد استقرار ليونور في إنكلترا، وإهمالها التدريجي لوالدتها وطمأنتها عليها من جهة أولى، والخوف والعذاب والحزن الذي ينهش استريلا من جهة أخرى، ينقلب الفيلم في منتصفه رأسًا على عقب. الصدفة وحدها تجعل استريلا تُصمّم ملابس فرقة هواة غنائية وتنفّذها، إذْ يُطلب منها هذا بدافع صداقة لمساعدة الفرقة الناشئة، لقاء بدل مالي قليل. تنصرف استريلا إلى العمل، رغم ضغوطه عليها. تدريجيًا، تنسى ليونور، بعد مرحلة القلق الليلي، وتفقّد حجرة نومها، والاطّلاع على الهاتف كل لحظة لعلّ هناك رسالة نصية لم تُقرأ أو صورة لم تُشاهد أو رسالة صوتية لم تُسمع. تصبح الغرفة مكانًا مُغطى بالملابس المفصّلة. هذا يُنهك استريلا فلا تفكّر بليونور، حتى أنها لم تردّ على اتصال هاتفي منها ذات مرة، ولم تنتبه إلى الرسائل. هذا يعني انقلاب الوضع تمامًا، إذْ باتت ليونور قلقة على أمّها.
يمتلك الفيلم تفاصيل شديدة الجمال والحيوية، تدفع إلى الإقبال على الحياة، وتعلّم درس أن الحياة لا تقف على فرد، وإن كان ابنًا/ ابنة وحيد/ وحيدة. تنتعش استريلا، بعد أن كادت تستلم للحزن واليأس والعذاب، فتدبّ الحياة مجدّدًا في المنزل، الذي باتت تخرج منه للقاء أصدقاء، وتلبية دعوات، والانفتاح على كلّ جديد. تعود ليونور بعد وقت، شاكية ألم التجربة في إنكلترا. لكن استريلا لا توبخها ولا تلومها. بل تُشعرها أن المنزل منزلها، إنْ أرادت البقاء أو المغادرة. ورغم غموض النهاية المفتوحة، هناك تلميح إلى أنه لم يعد لإحداهما مكان في حياة الأخرى، وأن الانفصال لمصلحتهما، وأن الخوف من التغيير أحيانًا يكون بداية لجديد ما رائع، وأن الحياة لا تتوقف على أفراد أو عند مرحلة عمرية محدّدة، وأن للطبيعة قوانين خاصة لا بُدّ أن تأخذ مجراها.