كتبٌ أكثر من عدد الشواطئ

17 نوفمبر 2015
فاتح المدرّس / سورية
+ الخط -

الكتاب يشبه ثقباً أسود لا مجال لمقاومة جاذبيته. هذه الأخيرة تمتصّ وتشوّه كل ما يقع بالقرب منه، ويشمل هذا الزمان والمكان. على هذا النحو، ربما تكون الساعة الثامنة صباحاً وأنت متوجه على متن حافلة إلى مكتبك، لكن على حين غرة تجد نفسك مختطفاً من قبل هذه الكتلة الجاذبة التي تسمّى كتاباً، هذا الذي كنت تحمله بين يديك أو تضعه في محفظتك وتظهر في الأخير في مكان مغاير، في تناغم، على سبيل المثال، مع رجل يغسل يديه الملطختين بالدماء في مغسل مطبخ فرنسي، بينما في غرفة نوم البيت ذاته بدأت جثة بالتبرّد.

الساعة لم تعد الثامنة صباحاً وإنما العاشرة مساء. وتغيّر فصل الربيع وحل فصل الشتاء. وأنت لست ذلك الشخص عديم الماضي الذي ينزل الآن من الحافلة، وإنما ذاك الرجل الآخر الذي بعد إزالة البصمات عن كؤوس الكونياك يلبس معطفه الداكن اللون وينزل الدرج هارباً.

تتوقف الجاذبية بمجرد إغلاق الكتاب، حان من جديد وقت التوقيع، لذا فأنت توقع في ورقة الحضور وتدخل مكتبك، حيث تحرّك الأوراق من مكان لآخر أو تجيب على الهاتف بالفاعلية أو الكسل المعتاد. في الأخير، عُدتَ إلى عالمك دون أن يشعر أحد أنك ذهبت. لو علم زملاؤك أنك عوض القدوم من بيتك كما جرت العادة، قدمت من مطبخ فرنسي حيث غسلت يديك الملطختين بالدماء في مغسله فسيفزعون.

في الواقع، ربما أنت لم تعد ذلك الشخص الذي كنته قبل قراءتك للكتاب. في دمك تجري الحبكة البائسة أو السعيدة التي يحتويها الكتاب، فقد أصبت بعدوى الكتاب على غرار "المستكشفين" الذين يعودون من أفريقيا وهم مصابون بالملاريا أو يعودون من جزيرة مولوكاي وهم مصابون بالبرص.

توجد كتب أكثر من عدد الشواطئ، وهي تحتوي على مادة قاتمة يبحث عنها الفيزيائيون في النجوم. إن قرأت رواية الشخص الذي يزيل الدم عن يديه فستكون دائماً ذلك الشخص دون أن تترك شخصيتك، والأغرب من كل هذا هو دون أن تترك في الوقت ذاته التماهي مع الجثة التي بدأت تبرد عندما نزلتَ من الحافلة. إنها مادة قاتمة بامتياز لأنها غير مرئية مثل الضمير لكنها في الوقت ذاته حقيقية مثل مديرك في العمل.


* Juan José Millas كاتب وصحافي إسباني ولد سنة 1946 في مدينة بلنسية. من أبرز أعماله رواية "العالم".

ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي


اقرأ أيضاً: مع من أريد الذهاب للعيش؟

المساهمون