بات مشهد كبار السن الكادحين في شوارع بغداد ومدن العراق المختلفة مألوفاً في سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي ــ البريطاني لبلاد الرافدين، والفقر الذي بلغ معدلات قياسية تصل إلى نحو 30 بالمائة غيّر مفاهيم اجتماعية سائدة لدى العراقيين تجاه لصاحب "الشيبة"، والعمر الذي ينبغي له يرتاح عند بلوغه ويتقاعد.
مهن لا تليق بكبار السن وأخرى تحتاج لمجهود كبير ينخرط بها رجال في العقدين السادس والسابع في العراق، ولكل منهم حكايته أو السبب الذي أخرجه للشارع، ودفعه للعمل ومنافسة من هم بعمر أحفاده.
وبحسب مسؤول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في بغداد، فإن نسبة عمالة الأطفال وكبار السن في العراق تكاد تكون الأعلى من بين الدول العربية، مبينا في حديث لـ"العربي الجديد"، بأن بغداد والبصرة والأنبار ونينوى وديالى تحتل الصدارة في عدد كبار السن العاملين الذين يزاولون مهناً مختلفة، غالبيتها تكون عبر الأكشاك أو البسطات في الشوارع، ولا يحظى كثير منهم بمعاملة لائقة".
وعزا المسؤول الذي رفض ذكر اسمه، الأسباب إلى تصاعد الفقر أو عدم وجود مدخول لكبار السن، أو بسبب وفاة أبنائهم بالحرب وأعمال العنف التي جرت بالبلاد في السنوات الماضية، وتركوا أطفالا يحتاجون لمن يعيلهم فعاد الجد للعمل.
عبد الحميد محمود(65 عاما) قال لـ"العربي الجديد": "أعمل من الصباح الباكر إلى ساعات متأخرة من الليل في المقهى، ولا يمكن أن أترك عملي أو آخذ قسطاً من الراحة حتى في أيام العطل والمناسبات الكثيرة في العراق، وذلك بسبب الفقر الذي يجبرني على العمل لتوفير بعض مستلزمات المعيشة الضرورية لأبنائي".
وشكا هادي خريبط(67 عاما) من مظلوميته المستمرة منذ 16 عاما مع دائرة التقاعد العامة، وبيّن لـ"العربي الجديد" أنه كان موظفاً حكومياً في المنشأة العامة للسيارات لعشرين عاماً، مضيفاً "أكملت خدمتي الإلزامية في الجيش العراقي، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، راجعت دائرة التقاعد العامة وأكملت أوراقي لغرض التقاعد، ولكن إلى اليوم لم يحيلوني إلى التقاعد، فأجبرني الوضع الاقتصادي الصعب على العمل في هذا المطعم الصغير الشعبي لأساعد أبنائي وعائلتي على العيش في ظروف قاهرة".
أما نادر خضر مصطفى، الذي قارب عقده السابع، فلم ترحم الأيام شيبته، وفقد ابنه الوحيد في حريق نشب في سوق الشورجة، تاركاً خلفه زوجة وثلاثة أطفال. وأوضح العم نادر لـ"العربي الجديد": "رغم كبر سني أعمل على هذه العربة البسيطة ولا أجني منها إلا أرباحاً بسيطة لا تسد رمقي الشخصي، وملزم بمعيشة عائلتي وبدفع إيجار بيتي وبيت ابني الذي كان سندي، واليوم أعيل أطفاله الأيتام بعد رحيله، وعندي إعاقة وأعاني أمراضاً كثيرة".
وبيّن بدر محمد هاشم (65عاما) لـ"العربي الجديد" أنه "متقاعد والراتب التقاعدي لا يتناسب مع مصروفنا الشهري، لأن العراق بعد الاحتلال الأميركي صار بلداً للأغنياء فقط، أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والصحية مرتفعة جداً، ولا تتناسب مع ما يتم صرفه لنا كمتقاعدين".
أما الحاج حسن شنان عطية، فقال لـ"العربي الجديد": "أبيع حلوى الدهينة في شارع الرشيد، وأنا مجبر على الوقوف في الشارع لبيع الحلوى وكسب رزقي اليومي، ولا أستطيع أن أرتاح يوماً، وراجعت دائرة الرعاية الاجتماعية لغرض إدراجي على لائحة التقاعد، والحصول على راتب لأني كبير بالسن وعندي أكثر من مرض، ولم أحصل على شيء، معللين أن صحتي بخير، ويمكنني العمل لما بعد الستين من عمري".
وعن ذلك، قال الدكتور علي مشكور، الخبير وأستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد لـ"العربي الجديد"، "إن عوامل كثيرة غيرت من تفاصيل وعادات وأساسيات معروفة في المجتمع العراقي منذ قرون، فالفساد الذي تسبب بالفقر في المجتمع العراقي جعلنا نشاهد امرأة مسنة أو رجلا مسنا يعملون في الشارع، والناس للأسف تغيرت طباعهم في التعامل مع تلك الشريحة من الناس".
وتابع "الدولة مسؤولة وفقا للقانون عن التكفل بإعانة كبار السن ماديا ورعايتهم صحياً، ومنع عمالة الأطفال، لكن القوانين في العراق انتقائية والحكومة والأحزاب لا تطبق منها إلا ما يتوافق مع مصالحها".