كاميرون يغادر الحكم بعد الفشل: بريطانيا المأزومة مهددة بالتقسيم

14 يوليو 2016
كاميرون سيقترن بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي(أولي سكارف/فرانس برس)
+ الخط -
عندما تقدّم رئيس الوزراء البريطاني المستقيل ديفيد كاميرون، إلى واجهة المشهد السياسي في بريطانيا في العام 2005، أراد أن يُنظر إليه بوصفه الشابَ المحافظ غير التقليدي، الليبرالي، ذا التوجهات العصرية، والمُنشغل بهموم العامة الاجتماعية، والساعي إلى تجديد الحزب ليكون "حزب محافظين لأمة واحدة". وقد وصف كاميرون نفسه في ديسمبر/كانون الأول 2005 بالقول: "أنا رجل عملي وبراغماتي، أعرف أين أريد الوصول، ولكنني لا ألتزم أيديولوجياً بمنهج واحد محدد". وقال أيضاً في أغسطس/آب 2008: "سأكون مُصلحاً اجتماعياً جذرياً كما كانت (مارغريت) ثاتشر مُصلحة اقتصادية".
وعند مراجعة مسيرة كاميرون، مع مغادرته سدة الحكم، يبرز رأيان، الأول يعتبره رجلاً استراتيجياً بعيد النظر، استطاع تحقيق السياسة التقليدية لحزب المحافظين، والتي تقوم على الفوز بالأغلبية في الانتخابات العامة، ليس من خلال المحافظة على الحزب في وسط اليمين، بل دفع حزب العمال إلى أقصى اليسار. وهو السياسي الذي جعل بريطانيا أكثر عدلاً وأمناً، واستقراراً من الناحية الاقتصادية في الأوقات العصيبة. أما الرأي الثاني، فيعتبر كاميرون شخصية "لا شعبية"، متحدراً من طبقة غنية، وخريج مدارس خاصة، وقد كرس موقف حزبه التقليدي في قضايا الفقر والمهاجرين والرعاية الصحية، وهو ما خلّف خيبة أمل لدى من اعتقدوا أنه سيجدد الحزب، ويأخذه نحو الوسط، وينقله خطوات جريئة نحو القرن 21. ويرى منتقدوه ومعارضوه أنه بدلاً من قيادة "حزب لأمة واحدة"، قاد الأمة إلى انقسام تاريخي غير مسبوق، إذ توسعت الهوة بين الكبار والشباب، بين الأغنياء والفقراء، بين المدينة والريف، وترك المملكة المتحدة على حافة التقسيم.
وبالنظر إلى إخفاقات وإنجازات كاميرون بعد أن غادر مقر الحكومة في "داوننغ ستريت"، يمكن لمؤيديه ومنتقديه الاعتراف له بعدد من الإنجازات، أولها استنهاض حزب المحافظين من حالتي الإحباط والترهل السياسي التي أصابته بعد ثلاث هزائم متتالية في الانتخابات العامة على أيدي الزعيم العمالي توني بلير. وبعد خمس سنوات من توليه زعامة الحزب في العام 2005، تمكّن كاميرون من إعادة الحزب إلى الحكم، ولو من بوابة حكومة ائتلاف. ونجح بعد ذلك في انتخابات العام الماضي، بتمكين المحافظين من الانفراد بالحكومة بعد الفوز بأغلبية في البرلمان. وبعد 13 عاماً من حكم "العمال"، ومرور البلاد في أزمة اقتصادية في العام 2008، تمكّن كاميرون من إعادة الاستقرار والنمو للاقتصاد، بفرض سياسات تقشف "غير شعبية"، حتى بات الاقتصاد البريطاني الأقوى في أوروبا، بعد الاقتصاد الألماني.
ومع أن سياساته "التقدّمية"، جلبت له أحياناً صراعاً مع القاعدة الشعبية التقليدية لحزبه، لاسيما عندما شرّع الزواج المثلي، كما واجه موجات غضب شعبية بسبب سياسات التقشف الاقتصادي، وتقليص الإنفاق العام، إلا أن سياسات أخرى مثل رفع الحد الأدنى للأجور، وتحسين التعليم، وإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، زادت شعبيته داخل حدود الحزب وخارجها. وقد يحسب له أنصاره خمسة إنجازات رئيسية، تشريع زواج المثليين في العام 2013، على الرغم من معارضة أكثر نواب حزبه، رفع حجم المساعدات الخارجية عام 2014 لتصبح بريطانيا أول دولة كبرى تلتزم بسقف 0.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي حددته الأمم المتحدة، إقرار قانون العبودية الحديثة عام 2015، ورفع الحظر عن عمل المجندات الإناث في الخطوط الأمامية لوحدات المشاة والدبابات في الجيش، وصولاً إلى جميع وحدات الجيش، بما في ذلك القوات الخاصة في العام 2018، وأخيراً الفوز في استفتاء عدم انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة.


مهما أنجز كاميرون، خلال السنوات الست التي قضاها في السلطة، إلا أن ذكره سيقترن أبداً بوصفه رئيس الوزراء الذي قاد بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد ترك البلاد في أزمة، واتحاد المملكة المتحدة في خطر التقسيم، بعد المقامرة في مستقبل بريطانيا وعلاقتها مع الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن كابوس "البريكست" سيطارد كاميرون طويلاً بعد أن أطاح به من الحكم، وقد حمّله خصومه وبعض أصدقائه، كامل المسؤولية، لأنه أخطأ بالأساس عندما استخدم ورقة الاستفتاء كورقة انتخابية في العام 2015، معتبراً أن التلويح بوعد الاستفتاء سيسحب البساط من تحت أقدام حزب "الاستقلال" اليميني الذي طالما استخدم عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي للتأثير على الناخبين.
ويقول منتقدو كاميرون، إن رئيس الوزراء البريطاني الذي وصل إلى الحكم على ظهر "وعد الاستفتاء"، أخطأ ثانية عندما فشل في الوصول إلى اتفاق مُقنع وواضح بعد مفاوضات ماراثونية مع الاتحاد الأوروبي، وأخطأ مُجدداً عن ظن، بثقة عالية أنه سيربح استفتاء الـ23 من يونيو/حزيران الحالي. كما يرى منتقدو كاميرون أن نهج خطاب "التخويف" و"التفزيع" من مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي اعتمده كاميرون، وبلغ به حد القول: "إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيهدد السلام في القارة الأوروبية، وإن خروج بريطانيا قد يُؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، ويُعرض بريطانيا لأخطار تنظيم "داعش" وروسيا". هذا خلق عند الناس ردود فعل تراوحت بين عدم الثقة في كل ما يسمعونه من كاميرون، والخوف من التصويت لعدم تحمل المسؤولية، أو التصويت لصالح الخروج من باب المناكفة.
ويرى هؤلاء أن كاميرون، ووزير الخزانة، جورج أوزبورن، يتحمّلان المسؤولية بشكل أساسي، لأنهما وبدلاً من تقديم خطاب عقلاني ومفهوم يصل إلى السواد الأعظم من الناس، عمدا إلى خطاب، إما نخبوي موجّه بالأساس إلى النخب الاقتصادية والأكاديمية، أو خطاب عام مليء بالتخويف والتفزيع، مما نفّر الشريحة الأوسع من الناس ودفعهم لعدم التصويت أو التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وربما تُرجمت خيبة كاميرون ومرارة ما تركته نكسة "البريكست" في قلبه، عندما توجه، أمس، ناصحاً رئيسة الوزراء الجديدة، تيريزا ماي، أن تكون قريبة قدر الإمكان من الاتحاد الأوروبي.

المساهمون