لا ريب في أن كلّ احتفاء بالإبداع - ومبرّر هذا الكلام هو مناسبة إطلاق جائزة "كتارا" للرواية العربية بموازاة افتتاح مركز ثقافي متخصص في الرواية العربية - من شأنه أن يحيل إلى القوّة الكامنة في الكلمة، وفي متخيّل الأدب.
ولا يقتصر الأمر على الإبداع المكتوب فقط.
أنا لستُ خبيراً أو ناقداً في الفنون التشكيلية، بيد أن لوحة "الصرخة" للفنان الأسوجي إدوارد مونك أطلقت العنان لمخيلتي نحو آفاق أرحب في مرحلة متقدّمة من العمر.
وقد استعدت معناها الأكثر بلاغـةً على نحو خاص، عندما سرت في الطريق التي مشى فيها الفنان قبل أن يرسم لوحته الشهيرة هذه، التي سرعان ما تحولت إلى رمز حادٍّ وصافٍ لتشخيص نزعات العصر الحديث ومشاعر الهلع وانعدام الأمان الإنسانية.
ومعروف أن مونك كتب في يومياته سنة 1892 مفسّراً كيف استوحى تلك اللوحة قائلاً:
"كنت أتنزّه على درب مع اثنين من أصدقائي. وكانت الشمس تغيب. فجأة أصبحت السماء بلون أحمر قانٍ. توقفت منهكاً واستندت إلى سياج. كان هناك دم وألسنة من نار فوق الفيورد الأزرق - الأسود وفوق المدينة. تابع صديقاي سيرهما وأنا بقيت هنا أرتعد خوفاً. وشعرت بصرخة لا متناهية تخترق الكون".
وفي سياق الخطاب الذي ألقاه الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا لدى تسلّمه جائزة نوبل للأدب التي حازها عن سنة 2010، لفت إلى أنه من الكهف إلى ناطحات السحاب، ومن الهراوة إلى أسلحة الدمار الشامل، ومن حياة القبيلة إلى عصر العولمة، ضاعف متخيّل الأدب التجارب الإنسانية، حائلاً بذلك دون أن يسقط الرجال والنساء تحت وطأة الخمول والانكفاء على الذات والاستسلام.
وأضاف أن الأدب يُدخل في أرواحنا التمرّد واللا امتثالية، وهما أمران يقفان وراء كلّ الجرأة التي ساهمت في تقليل العنف في العلاقات البشرية.
وفي نطاق تجربتنا المخصوصة نحن الفلسطينيين الذين بقينا في مناطق 1948 بعد النكبة في تلك السنة، يُشار أولاً ودائماً إلى أن أكثر ما يرمز إبداع أدبائنا إليه ولا سيما في العقدين الثاني والثالث من منتصف القرن الماضي، هو قدرته المدهشة في أن يعيدنا، على أجنحة الشعر والنثر، إلى ما كان قبل النكبة، وكاد أن يمحوه الزمان ونوائبه. بكلمات أخرى قدرته على أن يعيدنا إلى مناطق منسية من حياة طبيعية عاشها شعبنا الفلسطيني، وحوّلتها النكبة إلى حياة غير طبيعية لا تزال تنوء بكلكلها حتى الوقت الحالي.
وما نزال نصادف في الأدب الفلسطيني وخاصّة في الرواية عنصرين مركزيين متصلين مبنىً ومعنىً:
الأوّل، عنصر بناء الذاكرة الوطنية. والثاني، عنصر بناء المكان، حيث إن الخوف من فقدان المكان بتغيير أسمائه ومعالمه شكّل ولا يزال مصدر ألم للمبدع الفلسطيني.
ويتمّ ذلك في الأغلب عبر تفنين السيرة الذاتية، أو عبر تصعيد السيرة الذاتية إلى مستوى الأثر الأدبي.
وبهذين العنصرين في الأدب الفلسطيني، في الشعر مثلما هو الشأن في القصّة القصيرة والرواية والسينما والمسرح والفنون التشكيلية الخ...، يبني المبدع الفلسطيني ذاكرة وطنية حكائية، تجمع شتات الشعب الفلسطيني في أرجاء المعمورة كافة. وبتكوينه هذه الذاكرة يبلور الأدب الفلسطيني لنفسه كثافةً وجدانية، ويعطي ذاته حقّ تأطير هويته من خلال منظور وتصور يقاربان، في الآن عينه، أحلام الفلسطيني وهواجسه، وبالأساس مفهوم الشعب الفلسطيني لمستقبله وتصوّره لهذا المستقبل.
ويمكن أن نعتبر عامل المكان قصّة غير منتهية، لم تخضع بعد للدرس العميق بالنسبة لشتى أماكن تواجد الفلسطيني، وإن في ضوء حقيقة موضوعية واحدة، هي أن المكان بالنسبة للفلسطيني ليس الحيّز الذي يعيش فيه الإنسان مثل أبناء كلّ شعب في العالم فحسب، وإنما أيضاً "المكان" الذي يعيش في الإنسان الفلسطيني (أفتح هنا قوساً كي أشير إلى أن هذه الدلالة اقتبسها عن مقالة لي باحث إسرائيلي ألّف دراسة عن حقّ العودة الفلسطيني بعنوان "عناق التينة" للبرهنة على مركزية هذا الحقّ في كينونة الفلسطينيين).
من هنا تبني الفكرة الفلسطينية بشأن "وعي المكان" اشتقاقاتها ودلالاتها. من هنا أيضاً تستمدّ هذه الفكرة مقايستها التي ليس أبسطها إحساس جبرا ابراهيم جبرا بأن "المكان ينبض نبض جسم حيّ تراكم فيه الزمن، ثم انضغط انضغاط النور في الماس".
"ولهذا - يضيف جبرا- يغدو إدراكنا للمكان تأكيداً على وجودنا بأبعاد يستحيل قياسها، في منطقة قد تقع بين الوعي والحلم، ولكنها تقع حتماً في القلب مما نسميه الحياة أو الكينونة البشرية، كما أنها في القلب من التجربة التاريخية نفسها".
وبعد، تستحقّ روايتنا العربية مركزاً متخصصاً.
ومثلما شدّد يوسا في خطابه المذكور آنفاً، الرواية أكثر من تسلية، وأكثر من تمرين ثقافي يشحذ الحساسية ويوقظ الروح النقدية، إنها حاجة لا غنى عنها كي تستمرّ الحضارة في الوجود، وفي الوقت ذاته كي تتجدّد محتفظة بأفضل الأمور الإنسانية التي في دواخلنا.
ولا يقتصر الأمر على الإبداع المكتوب فقط.
أنا لستُ خبيراً أو ناقداً في الفنون التشكيلية، بيد أن لوحة "الصرخة" للفنان الأسوجي إدوارد مونك أطلقت العنان لمخيلتي نحو آفاق أرحب في مرحلة متقدّمة من العمر.
وقد استعدت معناها الأكثر بلاغـةً على نحو خاص، عندما سرت في الطريق التي مشى فيها الفنان قبل أن يرسم لوحته الشهيرة هذه، التي سرعان ما تحولت إلى رمز حادٍّ وصافٍ لتشخيص نزعات العصر الحديث ومشاعر الهلع وانعدام الأمان الإنسانية.
ومعروف أن مونك كتب في يومياته سنة 1892 مفسّراً كيف استوحى تلك اللوحة قائلاً:
"كنت أتنزّه على درب مع اثنين من أصدقائي. وكانت الشمس تغيب. فجأة أصبحت السماء بلون أحمر قانٍ. توقفت منهكاً واستندت إلى سياج. كان هناك دم وألسنة من نار فوق الفيورد الأزرق - الأسود وفوق المدينة. تابع صديقاي سيرهما وأنا بقيت هنا أرتعد خوفاً. وشعرت بصرخة لا متناهية تخترق الكون".
وفي سياق الخطاب الذي ألقاه الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا لدى تسلّمه جائزة نوبل للأدب التي حازها عن سنة 2010، لفت إلى أنه من الكهف إلى ناطحات السحاب، ومن الهراوة إلى أسلحة الدمار الشامل، ومن حياة القبيلة إلى عصر العولمة، ضاعف متخيّل الأدب التجارب الإنسانية، حائلاً بذلك دون أن يسقط الرجال والنساء تحت وطأة الخمول والانكفاء على الذات والاستسلام.
وأضاف أن الأدب يُدخل في أرواحنا التمرّد واللا امتثالية، وهما أمران يقفان وراء كلّ الجرأة التي ساهمت في تقليل العنف في العلاقات البشرية.
وفي نطاق تجربتنا المخصوصة نحن الفلسطينيين الذين بقينا في مناطق 1948 بعد النكبة في تلك السنة، يُشار أولاً ودائماً إلى أن أكثر ما يرمز إبداع أدبائنا إليه ولا سيما في العقدين الثاني والثالث من منتصف القرن الماضي، هو قدرته المدهشة في أن يعيدنا، على أجنحة الشعر والنثر، إلى ما كان قبل النكبة، وكاد أن يمحوه الزمان ونوائبه. بكلمات أخرى قدرته على أن يعيدنا إلى مناطق منسية من حياة طبيعية عاشها شعبنا الفلسطيني، وحوّلتها النكبة إلى حياة غير طبيعية لا تزال تنوء بكلكلها حتى الوقت الحالي.
وما نزال نصادف في الأدب الفلسطيني وخاصّة في الرواية عنصرين مركزيين متصلين مبنىً ومعنىً:
الأوّل، عنصر بناء الذاكرة الوطنية. والثاني، عنصر بناء المكان، حيث إن الخوف من فقدان المكان بتغيير أسمائه ومعالمه شكّل ولا يزال مصدر ألم للمبدع الفلسطيني.
ويتمّ ذلك في الأغلب عبر تفنين السيرة الذاتية، أو عبر تصعيد السيرة الذاتية إلى مستوى الأثر الأدبي.
وبهذين العنصرين في الأدب الفلسطيني، في الشعر مثلما هو الشأن في القصّة القصيرة والرواية والسينما والمسرح والفنون التشكيلية الخ...، يبني المبدع الفلسطيني ذاكرة وطنية حكائية، تجمع شتات الشعب الفلسطيني في أرجاء المعمورة كافة. وبتكوينه هذه الذاكرة يبلور الأدب الفلسطيني لنفسه كثافةً وجدانية، ويعطي ذاته حقّ تأطير هويته من خلال منظور وتصور يقاربان، في الآن عينه، أحلام الفلسطيني وهواجسه، وبالأساس مفهوم الشعب الفلسطيني لمستقبله وتصوّره لهذا المستقبل.
ويمكن أن نعتبر عامل المكان قصّة غير منتهية، لم تخضع بعد للدرس العميق بالنسبة لشتى أماكن تواجد الفلسطيني، وإن في ضوء حقيقة موضوعية واحدة، هي أن المكان بالنسبة للفلسطيني ليس الحيّز الذي يعيش فيه الإنسان مثل أبناء كلّ شعب في العالم فحسب، وإنما أيضاً "المكان" الذي يعيش في الإنسان الفلسطيني (أفتح هنا قوساً كي أشير إلى أن هذه الدلالة اقتبسها عن مقالة لي باحث إسرائيلي ألّف دراسة عن حقّ العودة الفلسطيني بعنوان "عناق التينة" للبرهنة على مركزية هذا الحقّ في كينونة الفلسطينيين).
من هنا تبني الفكرة الفلسطينية بشأن "وعي المكان" اشتقاقاتها ودلالاتها. من هنا أيضاً تستمدّ هذه الفكرة مقايستها التي ليس أبسطها إحساس جبرا ابراهيم جبرا بأن "المكان ينبض نبض جسم حيّ تراكم فيه الزمن، ثم انضغط انضغاط النور في الماس".
"ولهذا - يضيف جبرا- يغدو إدراكنا للمكان تأكيداً على وجودنا بأبعاد يستحيل قياسها، في منطقة قد تقع بين الوعي والحلم، ولكنها تقع حتماً في القلب مما نسميه الحياة أو الكينونة البشرية، كما أنها في القلب من التجربة التاريخية نفسها".
وبعد، تستحقّ روايتنا العربية مركزاً متخصصاً.
ومثلما شدّد يوسا في خطابه المذكور آنفاً، الرواية أكثر من تسلية، وأكثر من تمرين ثقافي يشحذ الحساسية ويوقظ الروح النقدية، إنها حاجة لا غنى عنها كي تستمرّ الحضارة في الوجود، وفي الوقت ذاته كي تتجدّد محتفظة بأفضل الأمور الإنسانية التي في دواخلنا.