وبعد نحو 3 أشهر على الرسالة الأولى، يمكن القول إن بهاء الحريري، الذي انفصل قبل سنوات عن شقيقه سعد مالياً من خلال بيعه حصته في شركة "سعودي أوجيه" التي تمتلكها العائلة قبل معاناتها من مشاكل مالية أوصلتها لمرحلة الإفلاس، دخل فعلياً يوم الجمعة الماضي المعترك السياسي بإصداره بياناً صوّب فيه على الطبقة السياسية الحاكمة مجدداً، ومن ضمنها شقيقه سعد، ما وضعه في مواجهةٍ مباشرة مع الأخير، ترجمت سريعاً بانتقادات عدة وجهت له من قيادات في "تيار المستقبل" الذي يقوده سعد. دخول ربما يكون ترجمة لقرار سعودي ــ إماراتي، بما أن بهاء الحريري ينافس شقيقه على الولاء لهذا المحور، وهو لم يتردد في المشاركة بلعبة فشلت سريعاً عندما احتجزت الرياض سعد الحريري وأهانته خريف عام 2017، فحاول التسويق لاسمه كبديل عن شقيقه يكون قادراً على مواجهة حزب الله وسلاحه ومن خلفه إيران.
طموحات بهاء السياسية، وتحديداً تولي رئاسة الحكومة في يوم من الأيام، تعززها مجموعة من المؤشرات بما في ذلك التغريدة التي نشرها مستشاره الإعلامي جيري ماهر على "تويتر" وجاء فيها أن "بهاء الحريري يملك مشروعاً حقيقياً لانتشال لبنان من أزمته السياسية والاقتصادية، وهو لن يقبل بسلاح حزب الله أو أي مليشيا تسعى لزعزعة أمن لبنان السياسي والاجتماعي، والبيان الصادر يؤكد أن لا سكوت عن الفاسدين ومن يدعمهم في الداخل أو الخارج". مع العلم أن بهاء انتقد في بيانه شقيقه وتحالفاته السياسية التي "أوصلت لبنان إلى الانهيار"، وكان لافتاً أن بيانه جاء بعد يوم واحد على ذكرى "7 أيار" (اجتياح حزب الله في عام 2008 العاصمة اللبنانية بيروت وبعض مناطق جبل لبنان بالسلاح وسقوط عدد كبير من القتلى بذريعة محاولة المسّ بشبكة اتصالاته غير الشرعية ومحاولة إقالة المسؤول عن أمن مطار بيروت العميد وفيق شقير)، في رسالة غير مباشرة بأنّ "تيار المستقبل" ورئيسه سعد الحريري وفريق 14 آذار دفنوا ذكرى "7 أيار" وباعوا دماء من سقط يومها وشرّعوا سلاح حزب الله الذي اجتاح العاصمة، بفعل التسويات والتحالفات ومقابل صفقات سلطوية ومالية.
وأتى بيان بهاء بعد أيام قليلة على تصريح شقيقه سعد للصحافيين بأنه يتعرّض لاغتيال سياسي، وفي وقتٍ يعدّ فيه في أكثر أيامه ضعفاً مع فشله أخيراً في تشكيل جبهة معارضة مع رئيس "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي خيّب آمال سعد بحضوره لقاء قصر بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية) يوم الأربعاء الماضي، الذي خُصص لإطلاع زعماء القوى السياسية على خطة الإنقاذ الاقتصادية وقاطعه "تيار المستقبل". لم تكن خطوة جعجع اعتباطية، في ظلّ اعتراض مناصري القوات على إعادة تجربة التحالف مع سعد الحريري مع انعدام الثقة به، ومع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي زار رئيس الجمهورية ميشال عون مهدئاً من خطابه بوجه حكومة حسان دياب.
واللافت، أنّ الابن الأكبر لرئيس الوزراء الراحل، دائماً ما يختار بياناته في مناسبات حسّاسة سياسياً، ففي بيان 14 فبراير الماضي، حوّل الأنظار إليه، بينما كان شقيقه يصعّد بوجه فريق رئيس الجمهورية وصهره رئيس التيار الوطني الحر، النائب جبران باسيل. كذلك، برز اسم بهاء مع انطلاقة انتفاضة 17 أكتوبر، مع انتشار أخبار مفادها بأنه يدعم المنتديات، خصوصاً تلك التي انضم إليها مناصرون سابقون لـ"تيار المستقبل" وتلك التي يرأسها المحامي نبيل الحلبي المقرّب جداً إلى بهاء وصاحب العلاقة السيئة مع التيار الوطني الحر، وقيلَ حينها إنّ الابن الأكبر لرفيق الحريري سيكون بديل شقيقه الذي قدم استقالته من رئاسة الحكومة في 29 أكتوبر الماضي.
وهي ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها طرح اسم بهاء مرشحاً محتملاً لرئاسة الحكومة، ففي عام 2017 رُبطت زيارته إلى السعودية بخلافة سعد في رئاسة الحكومة بعد احتجاز الأخير في الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وإجباره على تقديم استقالته تلفزيونياً. ما دفع بهاء يومها إلى إصدار توضيح أكد فيه أن الزيارة تمت بدعوة من قيادة المملكة العربية السعودية، والتي لا يمكن إلا أن يلبيها. وأشار إلى أنّ الحديث حول طلبه إرسال موفد لجنبلاط في أكتوبر 2017 غير صحيح، والحقيقة أن الأخير هو من تواصل معه عبر تطبيق "واتساب" وتحدث عن المخاطر التي تحدق بالبلد، وعلى هذا الأساس تم الاتفاق على لقاء بين موفد من قبله وجنبلاط. يومها اتُهم بهاء أيضاً بدعم الوزير السابق أشرف ريفي، الذي ترك "تيار المستقبل" وابتعد عن سعد الحريري وقدم استقالته من حكومة الرئيس تمام سلام عام 2016 بسبب "دويلة حزب الله"، فأكد بهاء أنّه أرسل سيارات مصفّحة لريفي بعد صدور تقارير أمنية تحذيرية.
واليوم يُطرح اسم بهاء مجدداً من قبل مقرّبين منه بوصفه سيكون "المنقذ" من الوضع الاقتصادي، مع المقارنة بين الانهيار الذي يمرّ به لبنان حالياً والحقبة التي تولى خلالها والده رئاسة الحكومة، بعد ارتفاع سعر صرف الدولار على نحو غير مسبوق عام 1992 ما أسقط حكومة عمر كرامي حينها. ويبدو الأمر مشابهاً لما يحصل اليوم مع تجاوز سعر صرف الدولار الـ4000 ليرة لبنانية في سوق الصرافين والمتوقع أن يبلغ مستوى أعلى في القريب العاجل. يذكر أن اسم بهاء الحريري ارتبط بمشروع العبدلي الخاص بتطوير وسط العاصمة الأردنية عمان، والذي أثار سجالاً في الأردن لسنوات بسبب فشله.
لم يمرّ بيان بهاء بسهولة، بل أشعل غضب مناصري "تيار المستقبل" وقيادييه من نواب ومسؤولين، ردّوا بمواقف حادة جداً، أبرزها ما جاء على لسان النائب السابق مصطفى علوش، الذي قال: "أستاذ بهاء قرأت ما هو منسوب إليك واستغربت من أين أتتك هذه الغيرة المفاجئة على لبنان الذي غبت عنه منذ اغتيال والدك، وكنا نتمنى لو شاركتنا يوماً قراءة الفاتحة عن روحه. أبناؤنا نزلوا تحت المطر ونحن نزلنا تحت الخطر وأنت أين كنت؟". كما ظهر تحرك مناصري "تيار المستقبل" عبر "تويتر" من خلال هاشتاغ "#لا_بديل_عن_سعد" هاجموا فيه أيضاً الوزير السابق وئام وهاب الذي يسوق لبهاء الحريري منذ فترة كخلف لسعد. وشمل التحرك أيضاً بعض المناطق المحسوبة على "تيار المستقبل" في منطقة طريق الجديدة – بيروت مع تعليق صور تجمع سعد الحريري والنائب نهاد المشنوق الذي تربطه علاقة سيئة ببهاء.
في السياق، يشرح المحامي نبيل الحلبي الذي أعلن بهاء دعمه له لـ"العربي الجديد" أنّ الأخير تحدث في بيانه الجديد عن منظومة فساد تحكمت بالكامل منذ عام 2005 حتى اليوم بالبلد وأوصلته إلى الانهيار الذي نشهده اليوم، وهو يعتبر أنّ الفرصة كانت تاريخية في 14 مارس/آذار 2005 وتمّ إجهاضها بفعل منظومة حزبية فوتت الفرصة على اللبنانيين من خلال التحالف الرباعي في الانتخابات النيابية عام 2005 (ضمّ حركة أمل برئاسة نبيه بري وحزب الله وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي) في وقت كان الانقسام السياسي على أشدّه بين فريقي 8 و14 آذار بعد اغتيال رفيق الحريري. ويضيف أن: المسؤولية لا يتحملها فقط سعد الحريري بل جنبلاط أيضاً الذي يعد مهندس التحالف، ما ساهم بإضعاف مبادئ "14 آذار" القائمة على بناء دولة القانون ورفض السلاح غير الشرعي، بل انخرطت في صفقات مالية جعلتها في الصف الأمامي، فيما بات الشهداء ومبادئ الانتفاضة (2005) في المرتبة الأخيرة. مع ذلك ينفي الحلبي نية بهاء تولي رئاسة الحكومة.
والمعروف أن التحالف الرباعي ليس التسوية الوحيدة التي شارك بها سعد الحريري، إذ تلتها تسويات وتحالفات كثيرة أبرزها التسوية الرئاسية التي نشهد تداعياتها اليوم بين سعد الحريري وجبران باسيل والتي أوصلت ميشال عون إلى سدّة الرئاسة. علماً أنّ العلاقة بين الرجلين والتيارين كانت سيئة جداً قبل أن يتخلى التيار الوطني الحرّ عن كتابه "الإبراء المستحيل" الذي يتهم فيه "الحريرية السياسية" بالفساد المالي والسياسي، وقبل أن ينسى سعد الحريري خصمه للخوض بتسويات سرعان ما انتهت اليوم ليعود الصراع بين الحريري وباسيل. بالإضافة إلى ذلك هادن سعد الحريري حزب الله كثيراً فبات الأخير لا يرى طيلة السنوات الماضية إلا في سعد رئيساً للحكومة كونه أكثر من يمكنه تغطية سلاحه وسياسته في الخارج. وهذا ما ظهر في تغيير لهجة الحريري تجاه حزب الله في مناسبات كثيرة. لذلك ظهرت انعكاسات التسويات السلبية على الحريري في شارعه وفي الانتخابات النيابية الأخيرة التي خسر فيها 13 مقعداً نيابياً بعدما تراجعت كتلته من 33 نائباً في انتخابات 2009 إلى 20 في انتخابات 2018، وهذا ما أقرّ به رئيس "تيار المستقبل" شخصياً بأنّه خسر الكثير بسبب هذه الخطوات لكنه كان يربطها بمصلحة لبنان.
من جهته، يبدي النائب السابق فارس سعيد (كان منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار) اعتقاده لـ"العربي الجديد"، بأن "الخلاف هو عائلي ولا أرى أنه من طبيعة سياسية، وللأسف خرج إلى العلن الآن، وهو لا يعني أحداً إلا هذه العائلة التي قدمت شهيداً كبيراً في 14 فبراير 2005، والذي أعتقد أن تشويه صورته بأي شكل من الأشكال هو بمثابة خطأ موصوف". ويضيف: "نحن اعترضنا على سياسة سعد الحريري منذ زمن التسويات مع العماد عون (رئيس الجمهورية الحالي) وما بعدها من خلال إنتاج قانون انتخابي سيئ، لكن يشهد للحريري أنه بقيَ معنا منذ 14 فبراير ولم يغادر الساحة السياسية، ومن السهل أن تأتي بعد 15 عاماً لتحاسب على ما حصل وتقول ما هو الخطأ وما هو الصحيح، وعندما كنا بأمسّ الحاجة في لحظات الاغتيالات إلى سندٍ لم نرَ إلّا سعد الحريري من هذه العائلة".
ويشير سعيد الى أنّ الحديث عن وصول بهاء إلى رئاسة الحكومة هو رهن الأحداث ولا يقدم أو يؤخر رأي المعنيين الشقيقين، لأن المشهد تجاوز بيت الحريري، ووصل إلى نقطة بالغة الأهمية، عبر تنامي الشعور لدى الوسط السني، بأنهم خارج المعادلة الوطنية، وبالتالي فإنّ المطلوب من أي زعيم سني يريد تولّي رئاسة الحكومة أن يستعيد المبادرة السنية من باب وطني، من أجل عودة السنة الى المسرح السياسي على قاعدة التأكيد على العيش المشترك وعروبة لبنان، بوجه من يريد أن يضعنا في محور إيران في هذه المنطقة.
ومن المعروف أن فريق عمل بهاء الحريري مقرّب جداً إلى السعودية والإمارات والولايات المتحدة، لا سيما مستشاره الإعلامي دانيال أحمد الغوش المعروف باسم جيري ماهر، الذي يعيش في السويد منذ سنين، وهو ملاحق في لبنان بناءً على ادّعاء رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا، وصدر بحقه حكم قضائي بالذم بصفا بموضوع مرتبط بتبييض الأموال وتجارة المخدرات. وتربط جيري علاقة وطيدة جداً مع السعودية وهو يعمل في إحدى مؤسساتها الإعلامية، ومعروف بعدائه الكبير لحزب الله والنظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد، وزُجّ اسمه بقضايا متعلقة بالتعامل مع إسرائيل. وهذا أمر يعتبره كثر بأنه لا يصبّ في صالح بهاء الذي اختار فريق مستشارين تحوم حوله علامات استفهام كثيرة، إلى درجة أن أحد قياديي "تيار المستقبل" علّق على الفريق الذي اختاره بهاء لمساعدته بالقول: "يمكن اكتشاف فشل بهاء قبل دخوله المعترك السياسي من خلال مستشاريه".
ومن بين العوامل التي يرى البعض أنها تقلل من حظوظ بهاء الحريري للوصول إلى رئاسة الحكومة موقفه من حزب الله، الذي بات المتحكم الأول في من يصل إلى رئاسة الوزراء، خصوصاً بسيطرته البرلمانية، فضلاً عن أن بهاء ابتعد نهائياً عن البلد وقضاياه منذ عام 2005. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الغطاء السني من دار الفتوى غير مؤمّن له بعد، ولذلك فإن علاقاته الجيدة مع السعودية وأميركا لا تكفي لوحدها لإزالة العراقيل. كما أن المحتجين اللبنانيين يرفضون ربط اسم بهاء، بدعم الانتفاضة اللبنانية، خصوصاً في ظل سعيهم لتغيير المنظومة بأكملها بما فيها "الحريرية السياسية". ويضاف إلى كل ذلك رفضهم مبدأ الوراثة السياسية، وذلك عشية عودة مرتقبة لبهاء إلى بيروت.