قصي اللبدي.. فردٌ في عائلة الشعر

20 يوليو 2014
+ الخط -

اسمه ليس مألوفاً إلا لقلّة من الشعراء والزملاء الذين يعرفونه، وقلّة أخرى من القرّاء الذين وقعوا على نصوص له منشورة في مجلة أو صحيفة. ثمة قصائد، قصائد فقط، فيما يخص قصي اللبدي، ويبدو أن هذا يرضيه. قصائد هنا وهناك، بلا ضجيج، بينما يرسل الشاعر، بين حين وآخر، جديده إلى المطبعة، مكتفياً بذلك كتعريف به.

قد لا يبدو مجازفة القول إن كثيراً من القلّة التي تعرف قصي اللبدي إنما تعرفت إليه بفضل مجموعة القصائد التي نُشرت له في العدد الرابع والثمانين من مجلة "الكرمل" (2005). كانت تلك النصوص باباً من ذهب للدخول إلى تجربة جديدة في شعر التفعيلة الذي نعرفه. تجربة جديدة لأنها لا تحاكي أبناء جيلها ولا يمكن إحالتها إلى مرجعية في شعر مَن يسمّون بالرواد أو بمن لحقوهم من شعراء باتت أساليب كتابتهم اليوم أشبه بـ"مدارس" في الكتابة العربية المعاصرة.

منذ قصائد "الكرمل"، مروراً بمجموعة "ليكن لي اسمك" (بيت الشعر الفلسطيني، 2011)، وصولاً إلى "فرد في العائلة"، مجموعته الصادرة أخيراً عن "دار فضاءات" في عمّان، يكتب اللبدي ما يسميه الشاعر والناقد الأميركي ويستان هيو أودن (في كتابه "الشاعر والمدينة") بشعر "النبرة الحميمية"، الذي غالباً ما يكون أشبه بـ"حديث شخص إلى آخر، لا إلى جمهور كبير". ولعل هذه النبرة باتت أكثر اتضاحاً في كتابه الأخير عن سابقيه.

تتجلى هذه النبرة في لغة اللبدي كما في مواضيع قصائده وموسيقاها الداخلية والخارجية. إنها الشفافية والمرونة اللتان تحيلان نص الشاعر، في حالات كثيرة، إلى حكي جميل وسرد لا يكتنف صوراً واستعارات إلا بقدر مضبوط وفي الوقت الذي يجب. فجمالية النص تنبع من داخله، من تدفقه وتناغمه وفكرته، لا من اشتغالات على اللغة والصوَر تفصّل على مقاسه.

في المقابل، تخف البلاغة، إلى حد بعيد، في مجموعة اللبدي التي قلما نعثر فيها على جمل أو مفردات زائدة عادة ما يرميها الوزن في طواحين الشعراء. وهذا يعد تميزاً في سياق قصيدة التفعيلة التي تعاني، عادةً، من ثقل إنشائيّ في اللغة والوزن وتركيبيّ في الاستعارات.

يسجّل لقصي اللبدي، في هذا الكتاب، محاكاته أحداثاً وتجارب (بعضها قد لا يعتبر شعرياً وبعضها الآخر يُنظر إليه ويُعامل بوصفه مأساوياً أو ميلودرامياً) بلغة سلسلة وبروح عبثية وفكاهية قليلة الشيوع في الشعر العربي المعاصر المستمر، في قوس واسع منه، بمحاكاته السوداويةَ والبكائيات والأطلال بلغة تنهل من هذه الكلمات الثلاث. ولعل النصان التاليان، المنتقان من مجموعته الجديدة، يكفيان مثلاً على ما يراد قوله في هذا المقام.


أبي

 
لون بذلته مضحك.
ربطة العنق (الرسم واللون، لا يُعقلان)
مناسِبة لزيارة عائلة من أقارب
موتى.

عقارب ساعته متوقفة منذ خمسين عاماً.
ولكنه لم يزل يتأمل ما حوله
صامتاً..
ويمرّر بين أصابعه التبغ، سيجارةً
بعد أخرى، كمسبحة.

كان مسترسلاً في الغناء عن الطقس،
حين صحوت،
ولم أستطع منع نفسي من الضحك:
المرء لا يرتدي بذلة ليطلّ من الذكريات!

ضحكنا،
ولم نتبادل كثيراً من الكلمات،
ولكنني اخترت فانلّةً وقميصاً بكمٍّ قصير،
له،
وخرجنا معاً.

آه..
ما زال يُضحكني رجلٌ ميت،
يرتدي بذلة ،
ويغني عن الطقس.



 
مقايضة


تعال، إذا شئت، في أي يوم،
سوى الثلاثاء؛
يصادف يوم الإجازة.
  
الأربعاء، أو السبت،
لا فرق.
 
أترك أيضاً لك الوقت:
بعد الظهيرة،
أو قبلها.
 
ولتكن خاطفاً، مثل حادث سيارة،
أو
بطيئاً
كغسل الكلى
 
آه،
لا تعتبرها مقايضة.
 
سوف أمضي إلى مرتقى ما
وأطلق أغنيتي
في الهواء:
"من الآن، كوني حياة حقيقية"

وأسرّح رفّ طيور، عليه ثلاثة أسماء:
بورخيس، ريتسوسُ، والمتنبي.

وأترك ممتلكاتي القليلةَ (ليس من اللائق
الآن تعدادها)..

وكتابين،
وامرأتين،
(تعودت تعذيب إحداهما)

لتظلّ الثلاثاء خالصة ليَ،
مثل صلاة..

سأترك مفتاح سيارتي
(سيكون على أحد ما، تفقد مساحتيها
وزيت المحرك).

أترك أدويتي.
أيها الكورتيزون: سأنزل
عن ظهرك الآن.

أوقف وردية الضوء والظلّ:
يا حارسيّ القديمين،
شكراً،
تقاعدتما.

وأسرح بضع قصائد
علمتها الطيران،
فلم تتعلمه.

ماذا تبقى؟
أجل،
سأسرح يوم ثلاثاء لم أرتكب خطأ فيه،
ثم أنام عميقاً،
كأني حصاة.

المساهمون