قصص أريحا القصيرة: هل تصبح الأقلام قلماً واحداً؟

16 يناير 2019
(كتاب فنّي للفنانة اللبنانية إيتيل عدنان)
+ الخط -

"لم يتمالكا نفسيهما وانفتح النقاش مجدّداً بينهما وهما يمشيان على رصيف الشارع بعد أن اشتريا أغراضهما للنزهة (من نص لربيع عيد)، تظهر القوة في ما انفعل من حركتيهما يا صاحبي (من نص لعبد المعطي مقبول)، دخلا غابة الصنوبر، حيث بدا الصمت أثقل من كلمات علقت بحلقها (مي كالوتي)، بقيا صامتين بنظرات لا يعرفان أين يوجّهانها طيلة الطريق حتى سكة الحديد القديمة، أوحى البرق باقتراب المطر (رؤى الشيش). وكم تأملنا بزخّة المطر الخفيفة تلك أن تبقي كفّتي يديهما مشبوكتين كي نتلامس نحن مجددًا وكم تمنينا (ربيع عيد). لو أنَهما يخلعان ثوب التمرّد فيلقيانه على ما ارتصف من حجارة في طريقهما. لو أنهما يتركان لنا الكلام (عبد المعطي مقبول). سكون مقيت خيّم على المكان (هند شريدة)، ثم صرخ يناديها وهي تسرع أكثر فوق المنحدر الترابي (مي كالوتي)، لكن كل هذا الغضب الدفين كان لا بدّ له أن يتفجّر وكأن منحدر التراب الحاد هذا قادهما إلى منحدر الحب وانطفاء روح البدايات بينهما (ربيع عيد) بعد أن انتهت هي من النحيب بين الشجيرات، جلست على صخرةٍ مبللةٍ بالمطر الحديث. وأصبحت عندها شجرةً بلا اسمٍ بين أشجار الصنوبر، فما حاجتها للاسم في الغابة؟ (أمير حمد)". (نص "النزهة" لعدة كتّاب، 2018).

"غضْبة على مقربة من الطريق، رفض للكلام على الطريق، صمت وسط سنديان الغابة، صمت على جسر السكة الحديدية، محاولة للتحلّي بالود في عرض الماء، رفض لإنهاء الشجار على الصخور المسطحة، صرخة غضب على الضفة الترابية المتحدرة، نحيب وسط الشجيرات." (نص النزهة، لـ ليديا ديفيس،1997).

النص الأول أعلاه هو إعادة كتابة جماعية لقصة "النزهة" لديفيس، وهو نتاج ثمانية نصوص مختلفة لكتّاب شباب اشتركوا في ورشة "قصص أريحا القصيرة" وهي سلسلة من اللقاءات الأدبية، والتي تعرّف بطرق وأساليب الكتابة، وتستعرض نصوصاً عالمية أدبية مختلفة بإشراف الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، لمدة ثلاثة شهور مع المشتركين في مدينة أريحا بدأت في خريف 2018. هذه الورشة جزء من ورشات للكتابة أقيمت في عدة مدن منها بيروت والقاهرة وفرانكفورت، حيث قام كل كاتب من المشتركين بكتابة وإعادة كتابة نصوص شخصية وعالمية.

رويت قصة ديفيس القصيرة جداً عن طريق المشاعر والمكان، ليس في القصة حديث، أو شخصيات محددة، بل نحن نتعرّف على مجريات القصة، أو نخلقها بالأحرى، بتفسيراتنا وتخيّلنا لتدرج هذه المشاعر في الأماكن المختلفة، والتي تبدو كجريان زمني في مواقع تصوير، كجزء من شريط فيديو من فيلم صامت ما.

عملت ديفيس على ربط الإحساس بسياقه المكاني، فهناك في نصّها نجد ثنائيات (الشعور-مكان) التالية: الغضب/ قارعة الطريق، الرفض/ الطريق، الصمت/ غابة السنديان، الصمت/ الجسر، محاولة اقتراب/ الماء، الرفض/ الصخور، الغضب مرة أخرى/ أشجار الصنوبر، النحيب/ الشجيرات. إنه تمثيل بياني، للمشاعر الإنسانية المنبثقة في زمن محدد، غير معروف كمدة تقاس، لكنه الزمن الذي لزمهما للانتقال من الطريق وحتى الشجيرات، إنه الغضب المتفجر، ثم الاستقرار والهدوء، ومحاولة فاشلة للتقرّب، ثم إعادة استرجاع الغضب بأقصى حالاته، ومن ثم انهيار قمة هذه المشاعر الغاضبة في فعل البكاء والنحيب، كفعل تفريغي، ومن ثم ما الممكن؟ النسيان؟ تجاوز الأمر؟ لا ندري.

عملت الورشة على استخراج المشاعر من نصوص المشاركين، بالترتيب نفسه الذي قامت به ليديا، لينتج هذا النص الجماعي، الذي يعبّر عن كل حالة، بطريقة مميزة، طريقة كاتبها، ولكنه يدمج بين المشاعر كلها، لينتج قصة واحدة جماعية، تقرأ الأصلية بطرق مختلفة وتعبر عنه بضمائر مختلفة، مرة من وجهة نظر أبطال القصة، ومرة من وجهة نظر المشاهد. يعمل المشاركون حالياً على تطوير قصص قصيرة بإشراف شبلي، في سبيل المشاركة بها في المسابقة النهائية، وهم: نسرين صيام، هند شريدة، خضر سلامة، أمير حمد، ربيع عيد، مي كالوتي، عبد المعطي مقبول، رؤى الشيش.

للنصين نفس المعنى تقريباً، الصور متقاربة، إن لم تكن متطابقة، أي أن المدلول (المعنى/الصورة) من النص متقارب، بينما الدال (الكلمة/النص) مختلف كلياً، إذا استعملنا مصطلحات عالم اللسانيات السويسري فرديناند دي سوسير.

فهل أن قيمة النص الأدبي تأتي من دالاته أم مدلولاته؟ وهل تتغير قيمته بدالّاته عبر الزمن، كونها أصبحت تعبر عن مدلولات جديدة في زمن أحدث؟ أي: هل مدلول نص ديفيس عام 1997، هو نفس مدلوله اليوم؟ وهل اختلفت قيمته الأدبية بسبب ذلك؟ أما بالنسبة إلى النص الذي جرى تحريره من عدة نصوص، فهل يمكن أن نلغي دور الكاتب تماماً من النص؟ وإلى أية درجة تحتمل النصوص التحرير، وتحتفظ بنفس الوقت بملكيتها لكاتبها؟ ما الذي يجعل النص ملكاً لكاتبه، دالاته أم مدلولاته؟ وهل ما زالت ديفيس "تملك" شيئاً من النص الجديد؟ أم أنه لا سطوة لنصها على الجديد سوى الإلهام؟

بحسب رولان بارط، فإن النص يقوم على عدة أبعاد وهي: البعد المادي، والزمني، والاجتماعي، والسيميائي، لكن السيميولوجي الفرنسي لم يقدّم تعريفاً للنص. في كتابه "درس السيميولوجيا"، عزا ذلك بأن ذلك يعني "السقوط ثانية في المدلول" كما يقول الباحث المغربي محمد أمغار، فهل خشي بارط أن يصبح تعريف النص منحصراً في معناه/مدلوله؟ إذن فإنه أولى أهميةً موازيةً لبعد النص المادي وهو فضاء الكلمات والأصوات المنسوجة والمشكلة للنص (لاحظ أن كلمة "نص" بالفرنسية والإنكليزية تأتي من الجذر texte وهو الجذر الذي تتشكل منه كلمة textile أي نسيج)، بالتالي يمكن القول إن النص الأساسي لديفيس مختلف عن النص المصاغ من معناه، وإن تشابه مدلولهما.

أما بالنسبة إلى تبعية النص لكاتبه، فبالنسبة إلى بارط إن النص هو الأثر الذي تتركه الكتابة، هذا الأثر هو النص. كان يقول إن الأدب يعد أدباً بقدرته على التحرّر والخلخلة والزعزعة، لذلك هو لا يفرّق بين كتابة أحد من الكتاب، فلا فرق لديه بين سيلين وهيغو وبين شاتوبريان وزولا من حيث مسؤوليتهم عن الشكل، أو البناء المادي، فالمهم الأثر الذي يتركه الأدب.


ولكن أليس لنسيج الكلمات المميز بأسلوب الكاتب مساهمة في تغيير الأثر؟ إذن من الممكن أن نختلف مع بارت بهامشية أهمية "الكاتب"، على أية حال أزعجت نظرية بارط عدداً لا بأس به من الكتّاب. أما بالنسبة لجاك لاكان، في كتابه "وظيفة اللغة في التحليل النفسي" فهو يرى أن الدالات تطفو فوق المدلولات وتخلق بناءً تحته من الممكن أن تتغير المدلولات وتتحرّك. ويسبغ أهمية أكبر على البناء المادي للنص.

إذن بحسب لاكان، فإن النصّين مختلفان تماماً، لأن المعنى/الأثر/الصورة/المدلول، من الممكن أن تتغيّر وتتحرّك بتغيّر المبنى اللغوي/الدال. ومن الممكن أن نأخذ الموضوع لدرجة أكثر راديكالية ونقول: ليس لديفيس أية سطوة أو علاقة بالنص الجديد.

المساهمون