قصر الباشا.. متحف الممالك المتعاقبة في غزّة

17 فبراير 2015
القصر المملوكي كان مقرّاً للولاة والشرطة والباشوات(عبد الحكيم أبورياش)
+ الخط -
تزخر مدينة غزّة الفلسطينية بتراثٍ أثري وتاريخي يعود لآلاف السنين، ومنذ نشأتها في عام ثلاثة آلاف قبل الميلاد، تعتبر من أقدم المدن الأثرية والتاريخية، المعبّرة عن تجذّر الحضارة الفلسطينية العربية منذ أنشأها الكنعانيون.

وتعتبر القصور الضخمة في مدينة غزّة من أهمّ النماذج المعمارية التي خلّفتها الحضارة الإسلامية القديمة، لما تحتويه من لمسات فنّية ومعمارية ساحرة، سجّلت على جدرانها العتيقة مختلف المراحل التي مرّ بها قطاع غزّة، عبر مختلف الأزمنة.

"قصر الباشا"، يعتبر النموذج الوحيد المتبقّي للقصور الأثرية، وهو يقع في حيّ الدرج من الجهة الشرقية لمدينة غزّة القديمة، الغنيّة بالمباني التاريخية، والتي توضح أصالة المدينة وقدمها وعراقتها، وقد وُضع على مدخل القصر الرئيس شعار أسدين متقابلين، قيل إنّهما رمز لانتصار المسلمين على المغول والصليبيين.

يعود تاريخ القصر إلى العصر المملوكي، وتجمع بعض الروايات التاريخية على أنّ بانيه هو الظاهر بيبرس (المولود عام 620 هـ/ 1221م، والمتوفى عام 676 هـ/ 1277 م)، والذي حقّق إنجازات تاريخية كبيرة، ولقّب بركن الدين وأبي الفتوح، و"سلطان مصر والشام" و"رابع سلاطين الدولة المملوكية"، كما اعتبره المؤرخون مؤسّسها الحقيقي.
وفي خلال انتصاراته العسكرية، بنى الظاهر بيبرس عدداً من المباني الهامّة، عسكرياً ومعمارياً، بينها القصور والقلاع...

وقد ارتبطت بالانتصارات التي حقّقها ضدّ الصليبيين وخانات المغول، ابتداءً من معركة المنصورة سنة 1250، مروراً بمعركة عين جالوت، انتهاءً بمعركة الأبلستين ضدّ المغول سنة 1277.

وكان الظاهر بيبرس قد أمر الوالي "جمال الدين أقوش" ببناء القصر. وهو استمرّ مقرّاً للحكم وإدارة غزّة حتى مجيء الدولة العثمانية بعد معركتي "مرج دابق" و"الريدانية" بين الدولتين المملوكية والعثمانية، وانتصر خلالهما المماليك، وبعد انتهاء الحكم المملوكي حكم غزّة العثمانيون من المكان نفسه الذي بقي مقرّاً للحكم حتى الانتداب البريطاني، وتحول القصر إلى مقرّ للشرطة والتوقيف.

لقب لكلّ زمان
سُمّي "قصر الباشا" بعدد من التسميات، في مختلف المراحل التاريخية التي مرّت بمدينة غزة، وعُرف في العصر المملوكي عام 1260-1517 بلقب "مقرّ نيابة غزّة"، وفي العصر العثماني عام 1517-1923م، أطلقت عليه عدّة أسماء، منها "قصر الباشا"، "دار السعادة"، "قصر آل رضوان"، نسبة إلى عائلة رضوان التي حكمت المدينة خلال العصر العثماني.
وتقول المرشدة السياحية ناريمان خلة، والتي تعمل داخل متحف قصر الباشا، إنّ الانتداب البريطاني سَلّم فلسطين للاحتلال الإسرائيلي الذي لم يغيّر شيئاً في القصر حتى تسليم قطاع غزّة إلى الإدارة المصرية عام 1956، وفي عهد الملك فاروق تمّ تحويل القصر إلى مدرسة سمّيت مدرسة الأميرة فريال، على اسم زوجته، وبقي كذلك حتى مجيء الرئيس جمال عبد الناصر الذي حَوّل اسم المدرسة إلى "فاطمة الزهراء" ابنة الرسول.

وتضيف خلة، في حديث إلى "العربي الجديد": "بقي المكان على ما هو عليه حتى مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية التي قرّرت عام 1998 فصل المدرسة عن القصر حفاظاً على الآثار الموجودة فيه، وفي عام 2005 تمّ ترميم القصر الذي تمّ اعتباره عام 2010 متحفاً رسمياً فتح أمام الزوّار".

وتبيّن أنّه شاع بشكل خاطئ عند العامّة اسم "قلعة نابليون" على القصر، ظنّاً بأنّه استقرّ فيه لحقبة زمنية، لكنّ خبراء التاريخ أكّدوا عدم صحّة سيطرة نابليون على القصر، سوى لبضع أيّام، أثناء اندحار جيشه مهزوماً على أسوار عكا عام 1799، واستمرّ القصر بتأدية وظيفته مقرّاً خاصّاً لوالي غزّة.

وعن متحف قصر الباشا، تقول خلّة: "يضمّ المتحف مئات القطع الأثرية، من فخّار، زجاج، عاج، أعمدة كورالثية، زينة نساء، وغيرها، وتعود تلك القطع إلى عدد من العصور، منها العصر اليوناني، الروماني، البيزنطي، والإسلامي بما يحتويه من العصر الأيوبي والأموي والمملوكي والعثماني".

القصر يحتوي على مبنيين تفصل بينهما حديقة، وتقول خلّة إنّ المبنى الشمالي، "السلملك"، كان خاصّاً بالرجال فقط وللحكم والإدارة، أما المبنى الجنوبي، "الحرملك"، فكان خاصاً بالنساء وجواري الملك، وزيّنت الواجهات والمداخل بالزخارف الهندسية المنقوشة بالحجر.

خمس غرف داخل القصر، خصّصت لعرض آثار المتحف، تمّ تقسيمها وفق العصور، الأولى للعصر الروماني، الثانية للعصر البيزنطي والإسلامي، الثالثة لزينة النساء، أما الرابعة فقد تمّ تخصيصها للأحجار والأعمدة والتيجان الضخمة، بينما خصّصت الخامسة للقطع الأثرية التي تعود إلى العصر الإسلامي.

ويشار إلى أنّ قطاع غزّة من شماله إلى جنوبه، وتحديداً في منطقة "غزّة القديمة"، شرق مدينة غزّة، يعتبر من أغنى المناطق الأثرية والتراثية التي تدلّل على أصالة الشعب الفلسطيني الذي واجه مختلف التحدّيات والصعوبات، حفاظاً على هويته وحضارته الراسخة.
المساهمون