قصة بطلين

06 فبراير 2015
+ الخط -
لا يتوقف والدي السبعيني عن رواية القصة: كنت في الصف الرابع في مدرسة القرية، كنّا نصغي باهتمام لشرح أستاذ الدين سورة العلق. أتذكر المشهد بوضوح، سمعنا طلقات نارية خلف نافذة الصف. فجأةً، فوجئنا بأستاذنا إبراهيم أبو طوق يصرخ فينا: اختبئوا تحت المقاعد، ثم سمعنا صوت إطلاق نار في الصف، كان الأستاذ إبراهيم يخرج مسدسا من خاصرته، ويطلق النار على دورية راجلة من (الهاغاناه)، تمر خلف المدرسة، ثم رأيناه من تحت المقاعد، وهو يخرج ويواصل إطلاق النار في الخارج. أيام فقط (والكلام ما زال لأبي) فصلت بين تهجيرنا وهذه الحادثة. غادر الأستاذ إبراهيم إلى الأردن مع الآلاف من أبناء شعبنا، عمل مدرساً في صويلح، وتوفي في أوائل السبعينيات.
وفي الكتاب السادس من يومياته التي نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية (ثمانية أجزاء)، يقول الفلسطيني المعلم والمفكر خليل السكاكيني: "كان لانسحابي من الخطابة في الإذاعة الفلسطينية استنكاراً لقول اليهود إن فلسطين أرض إسرائيل ضجة في طول البلاد وعرضها، مما رأيت أثره في الجرائد المحلية، وقد استغرب الناس إقدامي على الانسحاب، وأنا من عمال الحكومة الكبار، كما يقولون، فإن عملي هذا قد ُيغضب الحكومة، ويصوّرني لها بصورة الثائر المتمرد، أو، على الأقل، بصورة المشاكس المشاغب. في حين كان الناس، وكانت الحكومة معهم، يعتقدون أن هذه الخدمة الطويلة قد روّضت طباعي، وألانت قيادي ودمّثت أخلاقي، وجعلتني هيّناً، ليّناً، تأمرني الحكومة، فأطيع، وتكلفني ما شاءت من الأعمال، فلا أتأخر، ولا أتردد، إيثاراً لرضا الحكومة، على كل شيء".
في كل مرة أفكر فيها بمغادرة مهنة التعليم التي تسببت أنظمتها الفاشية، وبنيتها الراكدة، في تدمير نصف ذكائي، وثلاثة أرباع صفائي الذهني، أتذكّر المعلمَين الفدائيين، إبراهيم أبو طوق وخليل السكاكيني، فأؤجل التفكير، مستمتعاً بوهم التغيير، وبطولة خلق جزيرة من ضوء وسط بحر من العتمة، وفروسية التصدي للطين الذهني الذي يغرق فيه التعليم في فلسطين. المرعب، في نظامنا التعليمي، أنه لا يدرك، حتى الآن، حجم ضرره الذي تموت من خلاله الروح الفلسطينية رويداً رويداً. المعلم الممتاز في أنظمة مؤسستنا التعليمية هو الذي يتمكّن من تسجيل اسمه فوق الخط الأحمر، في دفتر حضور المعلمين، وهو الذي يواظب على تحضير دروسه كل عام، بالمقدار نفسه من الدقة في التوقيت الزمني. كان أحد المعلمين الممتازين يفاخر بأنه راجع دفتر حضوره عشرين عاماً، فاكتشف أن توقيت تحضيره الدروس متطابق جداً. وحين سألته: لماذا، إذن، لا تعتمد تحضيراً واحداً لكل الأعوام المقبلة، ما دام ما تحضّره للطلاب هو نفسه؟ أجاب: ترفض الوزارة ذلك، ومطلوب مني أن أحضّر كل سنة بسنتها.
هذه الجثة - المعلم تدخل، كل صباح، إلى الصف مع جثة أخرى، اسمها دفتر التحضير. جثة التحضير لا تعلّم طلابنا كيف يصادقون النقاش والتقصّي والتجاوز والـتأمّل ورفض الإجابات الجماعية، واحترام إحساسهم الفردي في مقاربة الحياة، بل لتدريبهم على أن يصيروا جثثاً ممتازة، تشبه ذاتها، تتلقف المعلومة بطاعةٍ بلاستيكية، وتتمسك بالقديم، وتخاف من المغامرة والحفر والبحث.
هذه الذهنية الميتة هي المسؤولة عن تخريج آلاف الطلاب، كل عام، وهؤلاء، للأسف، نسخ عن هذا المعلم، أموات ينتجون أمواتاً. كيف سنبني دولتنا القادمة بالموت؟ كيف سنصبح جزءاً من العالم، ونحن غير قادرين على الاستمتاع بصورة شعرية، رسمها شاعر عظيم، كالمتنبي ومحمود درويش؟ يعلّمون الطلاب، هنا، كيف يحفظون الشعر أو ينشدونه، لا تذوّقه وعيشه وممارسته والذوبان الجمالي فيه. في مدراسنا، يعلّمون الطلاب كيف يقفون بانتظام في الطابور الصباحي، ويجبرونهم على الاستماع لمواضيع ُيشرف عليها معلم مجبر على الإشراف على الطابور، في مدرسةٍ يشرف عليها مدير، مجبر هو الآخر، على توثيق كلمات الصباح، لا شغف في مدارسنا، لا حب، لا استمتاع، عقلية الإجبار هي التي تتجول في مؤسساتنا التعليمية في فلسطين، مع شخص شاحب الروح وفارغ القلب، اسمه (الترهل).
كل يوم أفكر في المغادرة. كل يوم أتخلى عن الفكرة.

دلالات
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.