قصائد مختبئة

19 اغسطس 2015
بطرس المعرّي / سورية
+ الخط -

"انهيار عصبي"، قالَها الطبيب بنبرة اتهامية ثم غمغم ببعض التوصيات عن ضرورة توفير الهدوء والراحة التامة قبل أن يخرج تاركاً زَيْد مع زوجته المُسجّاة في غرفة المستشفى.

ذاهلاً جلس الرجل الأربعيني قرب السرير. لا يفهم كيف وصلا إلى هنا. كان خِلافاً عادياً، أخذٌ وردٌّ في الكلام، روتينٌ زوجي يتكرر في معظم البيوت. قد يكون صوتُه علا قليلاً على غير العادة، أو ربما هي الاتهامات التي وجهها إليها لأوّل مرة. لكنها تغيّرتْ بالفعل وكلُّ ما ساقَه من مضايقات وملاحظات يجده في محلّه تماماً.

منذ فترة لم تعد صديقته، لم تعد شريكته، لم تعد تهمّها أخباره ونشاطاته. يرجع من لقاءٍ أو أمسية فلا تسأله لا عن التفاعل ولا عن الحضور. يعودُ من سفرٍ، فلا تهتمُّ بمن التقى من أدباء وشعراء ونُقّاد. يستفزّها بسؤالٍ فتردُّ عليه بأن تطلب منه رأيه بنصٍّ كتبَتْهُ منذ أسبوع، أو تسأله مراجعةً لغويةً لمقاطع ألّفتْها في غيابه. يؤجِّلُ بحجة غياب التركيز أو التعب، يعتذر، يُسَوِّف، يتهرّب من تلبية الطلب ومن إبداء السبب. ببساطة، هو لا يجد أيّ معنى لمواصلتها الكتابة طالما أنها اتخذت قرارها النهائي بعدم النشر.

يعرفُ أنّ موهبتها حقيقية، تصنعُ من العاديّ واليومي موضوعاً شعرياً، تخلقُ من رصْف المفردات القليلة قوّة تعبيرية مؤثرة وعميقة. يعرف كلّ هذا، لكنها حسمتْ أمورها منذ زمن وقرّرتْ بإرادتها الامتناع عن النشر. يومَها علّلتْ قرارها بالحال التي تسود المجال المهني وتعقيداته، شروط الناشرين ومتطلباتهم، العلاقات والأساليب التي تحكم هذا العالم وتتحكّم به.

 لم يناقشها إذ يجد في ما تقول مقداراً كبيراً من الصحة وإن كان قد اختار شخصياً المضي والاستمرار في هذا العالم نفسه. إذاً لمن تكتب هي الآن؟ ولماذا؟ ولماذا عليه هو أيضاً أن يشاركها عبثية كتابتها ولاجدواها بالقراءة والمراجعة والنقد؟ فلتُرِح نفسها ولتُرِحه ولتكتفِ بدور القارئ والمتابع. طالما أنها قرّرتْ هجر الوسط الثقافي فعليها أن تلتزم بالوقوف على الأطراف.

ليلةَ البارحة، تصاعدَ الحوار واشتدّ، تشعّبَ واحتدم. كان زَيْد سعيداً ومزهوّاً بما كُتِبَ عنه في الصحافة. إنجازاتُه كمدير إحدى أهم المؤسسات الفكرية في الإمارات والعالم العربي صارت حديث المجتمع الثقافي والإعلامي، أخباره وأخبار المؤسسة تتصدّر صفحات المجلات والجرائد والملاحق الأدبية. وبنفس القدر من السعادة والزهو، كان يشعر بنفسه مصاباً بالغبن والإحباط. فزوجته تدير ظهرها لما أصابه من نجاح، تتجاهل تعاظم شهرته وشأنه، تكتفي بإطراءات وثناءات مقتضبة من حين إلى آخر وكأنها زوجة رجلٍ عادي، عادي جدّاً.

البارحة واجهها بكل ما يزعجه، اتهمها أولاً بالتقصير، ثم بالإهمال، ثم بخفوت المشاعر، ثم اتهمها بالغيرة والحسد. كانت تردُّ عليه بجملٍ اعتذارية قصيرة، بكلمات أسف متقاطعة ومبعثرة، تتلعثم، تحاولُ أن تبرّرَ وتشرح، تنفي وتتراجع وتعود إلى الاعتراف بالذنب. إلى أنْ فجّرَ في وجهها قنبلتَه وأخبرَها بصراحة عن رأيه بجدوى استمرارها في الكتابة، عندها غرقتْ كلُّ جملها وكلماتها في قاع القلب، ولم يبقَ على لسانها وفي عينيها سوى سؤأل واحد: "والقصيدة؟".

راح يتحدّث عن ضيقه واستهجانه لرغبتها في مواصلة الكتابة، أسهب في وصف أوهامها وسذاجتها. لا يفهم لماذا تصرّ على عيش ألم الكتابة وأرقها طالما أنها لا تريد منها شيئاً، لا مهنةً ولا اسماً ولا شهرة؟ لماذا تتعب نفسها بحرث السطور وزرع الكلمات من دون أن يكون عندها أي طمع بالقطاف؟ لمن تكتب؟ ولماذا؟ وبين كلّ لوم وآخر، وبعد كلّ اتهام، كانت كلمتها تتردّد كسؤال الآخرة برجاء وإلحاح وثبات: "والقصيدة؟" "والقصيدة؟".

أيّة قصيدة؟ لم يسأل زيد نفسه هذا السؤال طيلة الليلة الفائتة. ولم يخطر له أن يفكّر به إلا هنا، في المشفى، بعد أن هدأ كلّ شيء. البارحة كان منفعلاً جداً ومصرّاً على إفهام زوجته كلّ مآخذه وعتبه عليها دفعةً واحدة. والآن أية قصيدة! إلى أي شيء كانت تشير بسؤالها هذا؟ ولماذا كل هذا الإصرار على تذكيره بـ"القصيدة" بينما خلافٌ جديٌّ جوهريٌّ يتّقدُ بينهما؟ بالفعل أية قصيدة؟

ينتبه إلى حركة يديها على السرير، تفتح عينيها. ينهض زيد باسماً ويزيح الستارة، يطلب إليها مشجِّعاً أن تظلّ هادئة وأن ترى الشمس، يشحبُ وجهها أكثر وتهمس بصوت باكٍ: "الشمسُ في إجازتها السنوية". القصيدة! إنه عنوان القصيدة! قصيدة: "الشمسُ في إجازتها السنوية". القصيدة التي أرسلها إلى أكاديمية الشعر واللجنة العليا المشرفة على برنامج أمير الشعراء، القصيدة التي قُبل بموجبها للمشاركة في البرنامج، القصيدة التي كانت خطوته الأولى للوصول إلى مراحل متقدمة في المسابقة.

صحيح أنه لم يحصد اللقب، لكنها القصيدة التي جلَبتْ له الاعتراف والحضور والفرصة، القصيدة التي انبجست بفضلها روافدُ جديدة لموهبته وأصبحَ له من بعدِها ثلاثة دواوين وعشرات القصائد، القصيدة التي كرّستْهُ شاعراً وأديباً، ثمّ أستاذاً ومديراً لإحدى أهم المؤسسات الثقافية في الإمارات والعالم العربي تتحدث عن إنجازاته كلّ الـ...
القصيدة التي لم يسأل نفسه يوماً لمن كُتبَتْ؟ ولماذا؟ قصيدة "الشمسُ في إجازتها السنوية" كانت بقلمها، بقلمها هي وبتوقيعه: "زيد".


* كاتبة قصة من سورية

المساهمون