قصائد تميل إلى التعبير الصوفيّ

13 يونيو 2016
(تونس: دار نقوش عربيّة، 2015)
+ الخط -
لعلّ الكتابة الشِعرية- في أحد أبرز وجوهها- تميلُ إلى تدوين اللحظات الوجدانيّة، بضراوتها وحميميّة تفاصيلها، وكأنها وسيلة تعبير عن سيل العواطف الآنيّة. تستردّ شيئاً من ألقِ النصّ العذريّ وروحانيته من جهة، ممزوجاً باللغة العرفانيّة في النصّ الصوفيّ العابر لثنائيّة "الزمان- المكان"؛ من جهةٍ ثانية. وهو ما نجده في جلّ المجموعات الشِعريّة في المرحلة الراهنة، وتحديداً لدى الشاعرات.

هذه الموجةُ؛ إنْ دلّتْ على شيء، فإنما تدلّ على شَعرنة الأحاسيس وتخليدها في النص. ما يجعله كتلة من المشاعر وشبيهاً بالمرآة، يعكس كل ما يجول في مُخيّلة المبدع من أفكار ورؤى، وكذلك البوح الشفيف واللغة النديّة. والنص هنا صامت وأقرب إلى السكون والحركة الجوّانيّة الخفيّة (الباطنيّة)، بدلاً من أن يكون في صيغة الفعل الخارجيّ أو الحركة الظاهريّة، إذْ طالما "الكاتب الحقيقي يصمت عادة ليتكلّم نصّه".

الكتابة الآليّة
تأتي في هذا الاتجاه، المجموعة الشِعريّة الجديدة "ما يجعل الحبّ ساقاً على ساق"، الصادرة أخيراً عن دار نقوش عربيّة بتونس، للشاعرة التونسيّة هدى الدغّاري، إذ ثمّة كتابة آليّة أقرب إلى التداعي الحر، في تناول حميم وعفوي لكل ما هو يوميّ من حبّ أو شجن. في قصيدة بعنوان (خسارات صغيرة)، تقول الدغّاري: "شجرة الخرّوب/ في محطّة الحافلة/ تظلّلنا/ كلّما هزّتنا رياحُ الحب نحو الذّهول،/ ننقش عليها تاريخَ خساراتنا الصغيرة،/ نحصّنها من الغفلة،/ هكذا نحتفي بهزائمنا،/ في الحب/ كما في الحرب،/ على جسد شجرة!".

شِعريّة السرد
رغم سيطرة السرد على أجواء المجموعة برمتها، لا السرد النثريّ المنثور والمنفلت وإنما السرد الشِعري المُحكم والقريب إلى الكتابة العفويّة التلقائيّة؛ إلا أنها تذخر بالمفارقات المباغتة، حتى نكاد نجد ذلك في كل جملة من المجموعة، رويداً رويداً وهي تستدرج القارئ بسرعة إلى خاتمة مفاجئة ومدهشة.

السرد هنا درامي، واللغة تدنو من المشهديّة في تصوير والتقاط مادتها الخام من عبثيّة التفاصيل اليوميّة العابرة والمهملة. في قصيدة بعنوان (عجيب هذا المشهد)، تقول: "تينٌ شوكيٌّ على سور الجامع،/ شيخٌ يُحصي كعوبَ العابراتِ على إيقاع حبّاتِ المسبحة،/ شاب يبيع الزّهر والتّمر وقوارير العطر.../ آخرون تحت حائطٍ متهدّم،/ يتابعون نشرة أخبارٍ بعيون زائغة:/ خرفانُ عيدٍ آتيةٌ من وراء البحر،/ ساسةٌ بألسنةٍ متدلّية،/ لهاثٌ وثغاء،/ ساحةُ أغنام/ وجلبة مخنوقة.../ لا أحد يلتفت الى طفل قابع في زاوية/ بثياب ممزّقة ورغيفِ خبزٍ يابس".

أنسنة المكان
من جهةٍ أخرى، تعمل الشاعرة الدغّاري على أنسنة المكان وكل ما يحيط بها داخل القصيدة، بحيثُ يتم تحويل الشيء إلى كائن حيّ من لحمٍ ودم، يفرح ويحزن ويشارك في الحياة ضمن القصيدة، مثله كمثل باقي الشخوص. وهو ما نقرأه في قصيدة بعنوان (من قال إنّ الأمكنة لا تحزن!)، حيثُ تقول: "كنتُ أرى نفسي بذرةً في أصيص،/ أرتوي من نشيجِ باب أضاع مفتاحه؛/ نبتتْ عشبةٌ في القفل،/ عرّشت في قلبي الصّامت،/ انتبهتْ حمامة الى هلع زاوية؛/ خُطافٌ نقل عشّه الى زاوية أخرى.../ من قال إنّ الأمكنة لا تحزن!".

دلالات العناوين
العناوين في مجموعة "ما يجعل الحبّ ساقاً على ساق" تأتي في اتجاهين؛ بعضها تصويريّة ويكادُ يكون كل عنوان لوحة تشكيليّة بحدّ ذاتها، فيها من التأمّل والإدهاش بقدر ما فيها من المشهديّة وتحديداً مشاهد الطبيعة الصامتة والصادمة في الآن معاً. كما نجد بعضها تغرف من نبع التصوّف ومفرداته، في تناولها القلق للأسئلة الوجوديّة حول ماهيّة الحياة والموت وما بينهما من صراع أزليّ، حيثُ نقرأ- على سبيل المثال لا الحصر-: (ليل الحديقة الباكي، كم أحبّ ارتعاشهما تحت القميص، هكذا بلا سبب، حركة الشحرور، غريبٌ كل من يمشي مرتجفاً، قل لقلبك، رعشة المحبّ، صباحك شمسي التي دون شمسك، ربّي اُقتلني، شهقة بين شوقين، الحبّ شمس تسابق الوعول في البرية، لا ضوء ليبدّد ثقل الوحشة، كلما مرّ قرب بيتها، وأنصت إلى عشبة).

خاتمة
مجموعة "ما يجعل الحبّ ساقاً على ساق"، للشاعرة هدى الدغّاري، والتي أتت بعد باكورتها "لكلّ شهوة قِطاف"، وفيها تبدو القصيدة أكثر نضجاً وتكثيفاً، وكأنها غابةٌ من التأملات، عدا عن التوثيق الدقيق والإلمام بكل الجوانب الحياتيّة وخفاياها، المرئيّة منها واللامرئيّة أيضاً. وهو ما يؤكّده الإنجليزي شيلي في قوله بأنّ "الشاعر هو ذاك الذي يلاحظ كل العلاقات الخفيّة للأشياء".

(كاتب سوري)

المساهمون