قتل خاشقجي.. مسؤوليات وتحديات

24 يناير 2019
+ الخط -
تعيش منطقة الشرق الأوسط بين المطرقة والسندان، بين مطرقة التطرف الديني الذي يسعى أصحاب الخطاب الديني ومنتفعيه، الذين يبحثون عن الشرعية من الدين ويمارسون سلطة مقدسة باسم الإله، إلى قمع حرياتنا ومنعنا من التفكير، وسندان الديكتاتوريات المتجذرة بالعمق التاريخي للمنطقة، والتي يسعى خلفاؤها اليوم إلى الإيحاء بأنهم لا يشبهون أسلافهم وبأنهم "ديكتاتوريات متمدنة". وجد الصحافي السعودي المغدور، جمال خاشقجي، منبره في صحيفة واشنطن بوست، بعيداً عن مقصّ الرقابة، للتعبير عن الواقع العربي بحرية.
لم تفاجئني التقارير عن ازدياد القمع للمعارضة داخل العربية السعودية، بقيادة ولي العهد، محمد بن سلمان، ولم يفاجئني ما رُوي عن تواصله مع سعد القحطاني (المتهم الأول بقتل خاشقجي)، وليست مفاجئةً أيضا أن القحطاني حرٌ طليق. المفاجئ هو التخاذل الذي أصاب الإدارة الأميركية وفقدانها زمام المبادرة. يبدو أن بن سلمان بدل من أن يتعلم الدرس ويُطلق الحريات ويكف عن قمع واعتقال المعارضة، اعتبر السكوت الأميركي في قضية خاشقجي ضوءً أخضر للاستمرار بالقمع والاعتقال والتعذيب. هذه المسؤولية هي مسؤولية الإدارة الأميركية، لأنها هي حمت بن سلمان في المقام الأول من تداعيات قضية قتل الصحفي الحر خاشقجي.
تسعى السعودية اليوم، وبعد ما يُقارب من مائة يوم على جريمة قتل جمال خاشقجي إلى طمس الجريمة، ومحو علائمها، من خلال إصدار أحكام إعدام وحشية أخرى بحق خمسة من المتهمين في ارتكاب الجريمة، وهي ضربة استباقية لأي تحرك من شأنه المطالبة بتدويل القضية، وطلب الوصول إلى الشهود والمتهمين دوليا أو أممياً. لا تزال الأسئلة الكبرى عالقة من دون أجوبة من السلطات السعودية، أين الجثة؟ من هو المتعاون المحلي الذي تحدث عنه الوزير السعودي، عادل الجبير؟ من أمر بالتنفيذ؟ هل يتحمل محمد بن سلمان، بوصفه رأس الهرم، مسؤولية قتل خاشقجي؟ ما دور القحطاني في القضية، وأين هو تحديدا الأن؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من أسئلة محورية ستختفي بمجرد إعدام المتهمين الخمسة، وهو ما تسعى السعودية إلى تنفيذه بسرعة كبيرة، خصوصا أنّ أحكام الإعدام لا تأخذ وقتا طويلا في السعودية.
لا تمس الجريمة البشعة التي تعرض لها خاشقجي أمن السعودية وحسب، بل هي قضية محورية ستغير قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، لأن إفلات القتلة الحقيقيين من العقاب سيبعث (إن لم يكن بعث) رسالة واضحة إلى ديكتاتوريات المنطقة إن قتل المعارضين (حتى في السفارات والقنصليات) وقمعهم وتعذيبهم سيمرّ بسلام، ولن تتعرّضوا للمساءلة أبدا.
من جهة أخرى، هذه الجعجعة التي صدرت عن دول أوروبا (فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) لم تكن سوى مثلما يقول المثل العربي "جعجعة بلا طحين". لأننا اكتشفنا فيما بعد، وبحسب تقرير لصحيفة ميرور، سعي بريطانيا إلى عقد صفقات سرية لبيع أسلحة للعربية السعودية، أما موقف فرنسا فقد كان متردّدا منذ البداية، ويبدو أن هذه الدول أحالت المسألة إلى الزمن، لنسيان قضية خاشقجي، وقتله المروع في قنصلية بلاده في اسطنبول.
عود على بدء، سبح الرئيس، دونالد ترامب، عكس التيار، فرفض تقرير الاستخبارات الأميركية، سي أي إيه، من جهة، ولم يعر اهتماما لقرار مجلس الشيوخ بالإجماع بتحميل مسؤولية قتل خاشقجي لمحمد بن سلمان. إن كان ترامب قد فقد مصداقيته بالنسبة لقضية قتل الرجل، وبالنسبة للمعتقلين حاليا في السعودية، فإن مسؤولية الكونغرس الأميركي على المحك، فالجريمة لا تتعلق بقتل صحفي وحسب، بل بالمسؤولية الأخلاقية وحرية الصحافة، ليس في السعودية والشرق الأوسط فحسب، بل في الولايات المتحدة نفسها. الكونغرس الأميركي اليوم مطالب بتحمّل مسؤولياته بفرض عقوباتٍ ضد العربية السعودية وولي عهدها، ومُطالب كذلك "بحماية المتهمين" الذين تسعى السعودية إلى قتلهم اليوم، وليس غداً وتشكيل لجنة مختصة للقيام بالتحقيقات اللازمة والدفع نحو تدويل قضية قتل جمال.
وبعيداً عن المشادّات الجارية في الولايات المتحدة، نتيجة الإغلاق الجزئي للحكومة الأميركية. تبقى مسؤولية عقاب العربية السعودية على عاتق المجتمع الحرّ، هذا المجتمع الممثل بكل من الجمهوريين والديمقراطيين، على حد سواء، فهل سيقوم المشرّعون بمهامهم الأخلاقية؟
B8509327-5E31-4709-83EC-3DA31CEFF270
B8509327-5E31-4709-83EC-3DA31CEFF270
محمود البازي (سورية)
محمود البازي (سورية)