قبل أن تتسرّب الدولة

08 ديسمبر 2014

عناصر مكافحة الشغب يحيطون بميدان التحرير (29 يناير/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
على الرغم من أن ظاهرة التسريبات السياسية والأمنية ظلت مستمرة بكثافة بين المصريين في السنوات الأربع الماضية، إلا أن التسريب الأخير لمحادثات هاتفية بين قيادات عليا في مؤسسات الحكم حظي بجدل غير مسبوق وأصداء واسعة، إلى حد دفع السلطة القضائية (ممثلة في النيابة العامة) إلى إصدار بيان رسمي حول الأمر. ما يعني أن المسألة أثارت قلق دوائر في الحكم، فصدّرت القضاء للرد على ذلك التسريب، فخرج بيان من النيابة العامة متعجلاً متناقضاً. إذ يعلن فتح تحقيق في الأمر، وفي الوقت نفسه، يفترض مسبقاً أن المكالمات "مفبركة"، في مصادرة على نتائج التحقيق المفترض، ليس فقط في صحة التسريب أو خطئه، لكن، أيضاً، بالنسبة للجهة المسؤولة عن تلك "الفبركة"، والتي هي بالضرورة جماعة الإخوان المسلمين. وفضلاً عن أن صدور هكذا بيان من النيابة العامة يُعد، بحد ذاته، عملاً سياسياً أكثر منه قضائيا، فإن صياغته المتشنجة تعزز دلالات التسريب، لجهة الشبهات العديدة حول العلاقة بين القضاء والسياسة في مصر.

ربما ما يقلق جهات معينة في التسريب، أنه يتناول قادة تجب فيهم، بحكم مواقعهم الحساسة، النزاهة والحيادية والولاء حصرياً لمصلحة الوطن، وإرادة المصريين. خصوصاً أن السلطة الجديدة التي يمثل هؤلاء أركاناً أساسية بها، اعتمدت على تلك الصفات في تحضير، ثم تبرير 3 يوليو، وما تلاه من إجراءات.

من ثم، فما قد يترتب على تلك التسريبات من تساؤل عن نيات تلك القيادات ونزاهتها، ولو كأشخاص وليس كمؤسسة، كفيل بالتشكيك في دوافع وأهداف كل الخطوات والمواقف التي قامت بها تلك القيادات، ليس فقط بدءاً من 3 يوليو، بل، أيضاً، قبله.

وعندما تكون تلك القيادات منتمية لمؤسسة واحدة، لا يعرف عما بداخلها إلا قليل. فلهذا دلالة لا تقل خطورة. على الرغم من أن التسريبات السابقة حملت مواقف ومعاني كاشفة لتوجهات وعقليات، إلا أنها كانت تتعلق بتوجه شخص محدد وعقليته، وليس بالضرورة مؤسسة لا تزال صورتها الذهنية لدى غالبية المصريين بعيدة نسبياً عن نظام حسني مبارك وألاعيبه، من تزوير وفبركة وتقنين. لذا، ليس صحيحاً أن التسريب الأخير يستهدف التضحية بشخص معين، أو إطاحته، ذلك أن كشف، أو تشويه، مواقف وتوجهات مجموعة شخصيات، تشغل أعلى مناصب قيادية في المؤسسة العسكرية المصرية، هو ضربة للمؤسسة ككل. سواء كان ذلك كشفاً لحقائق الأمور، أو فبركة لوقائع مختلقة. وإن كان الاحتمال الأخير أضعف، لأن التسريب يتعلق بمحادثات ووقائع قديمة زمنياً، وتجاوزتها التطورات فعلياً، فإن كان في الأمر اختلاق وتزييف، فلا مبرر لتأخيره، ولقام "المفبركون" بذلك في وقت مبكر، ربما أكثر جدوى وتأثيراً في تطور الأحداث.

إن كان مفاد ذلك أن التسريب الأخير صحيح، فهذا يعني أحد أمرين، إما أن ثمة خللاً في إجراءات تأمين الاتصالات بين القيادات العليا في الدولة، وإمكانية تتبع الاتصالات على هذا المستوى الرفيع من خارج دائرة السلطة، وهذا مصدر تهديد خطير للأمن القومي. أو أن الاختراق، وبالتالي التسريب، تم بواسطة جانب أو جناح أو جهة ما من داخل مؤسسات الحكم، وهذا معناه أن بعض الدولة يعمل ضد بعض آخر.

في الحالتين، تشير الواقعة إلى أن السيطرة ليست كاملة، وحكم مصر ليس بالسهولة التي ربما تصورها بعضهم، سواء كان هذا البعض شخصاً أو مجموعة أو مؤسسة. وما لم ينتبه هذا الشخص، أو المجموعة، أو المؤسسة، إلى ضرورة التوقف الفوري عن الهروب إلى الأمام، وتصحيح ما وقع من أخطاء بإعادة البلد لصاحب الأمر فيه، وهو الشعب، قد يتجاوز الخطر تسريباً هنا أو هناك من بين يدي الدولة، إلى تسرب الدولة نفسها، وضياعها بأيديهم.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.