في وصف مشكلاتنا

14 مارس 2017
+ الخط -
ما المشكلات التي يعاني منها العرب اليوم؟ الانقسام؟ التكفير؟ عدم نصرة السالمين من أبنائهم الواقعين منهم تحت الحرب على الوجه الكافي؟ الاضطهاد الذي تتعرّض له شعوب عربية؟ العنصرية التي يُلاقون بها في الخارج؟ احتلال أرضهم واستباحة مقدساتهم؟
تلك كلها ليست مشكلات، بل تجليات عديدة لأزمة واحدة لا ثاني لها: الخروج من التاريخ والتخلف عن العصر. فبينما تنطلق الأمم نحو المستقبل، نتخلى نحن عنه بسهولة، ونعيد عقارب الساعة إلى الوراء؛ وبينما تستثمر الأمم مواردها الطبيعية وخيرات أوطانها، لتحقيق نهضتها وإنجاز متطلباتها، نتفنن نحن في إهدار مواردنا وأموالنا. وبينما تتكرس قيم الحرية في العالم، نصرّ نحن على ثانويتها. وبينما ترفض الأمم الارتهان للقوى الأجنبية، نبحث نحن عن رضاها؛ وبينما تتوحد الأمم، نتوجه نحن نحو مزيد من الفرقة؛ وبينما تتجه شعوب العالم الثالث نحو قيم المواطنة والمدنيّة، نصرّ نحن على اجترار أسوأ ما في قبليات ما قبل المدنية؛ وبينما ترنو الأمم نحو تطوير واقعها، نتعلق نحن بمزاعم البحث عن الأصالة والتمسك بالجذور.
أليست هذه كلها تجليات لأزمة التخلف عن العصر؟ إذا كان الأمر كذلك، وكان منبع الأزمة ثقافياً بالدرجة الأولى، فإنه يتجلى سياسياً على نحو واضح، إذ لا تتبدّى الحياة السياسية في العالم العربي على الشكل الذي يجب أن تبدو فيه الحياة السياسية الطبيعية، فهي، في حقيقتها، ليست إلا ساحة لتحقيق المصالح الشخصية، بالنسبة لكثيرين ممن ينخرطون في "مؤسساتها" وأعمالها؛ وللتنفيس عن العُقد والعصبيات الإقليمية والطائفية، بالنسبة لكثير ممن يشاركون في الجدال حول قضاياها، ويتخذون مواقف منها، ويطرحون آراءهم واقتراحاتهم تجاهها. وهكذا، تكون الأوطان بالنسبة إليهم مجرد "كعكة"، نتقاسمها حتى نرضى.
في هذا السياق، يجد المطالع ما يدور في مواقع التواصل الاجتماعي عن السياسة أن "الشعوب" (من دون تعميم) تستعمل الجدال حول الأحداث السياسية من أجل التراشق المَرضي على أساس الأصل والدين، أو لتصفية الحسابات الشخصية، فيما تضيع القضايا السياسية وراء المواقف المسبقة غير القابلة للتبديل، والتي لا يجدي فيها الحوار والإقناع والحُجّة.

يحار المرء في سبب هذه الظاهرة: هل نتجت عن تغييب الناس عن المشاركة السياسية في بلادهم، فترة طويلة، حتى تعوّدوا الغياب عن السياسة؟ لو أن الأمر كذلك، لكانوا متعطشين للعمل السياسي، والاختلاف السياسي.. أم هل نتجت عن انعدام الثقافة السياسية، والخبرة السياسية، عند السواد الأعظم ممن يظنون أنفسهم سياسيين أو مهتمين بالسياسة؟ لو كان هذا هو الواقع، لرأينا تطوراً في سلوك الناس تجاه السياسة من حدث إلى آخر، مكونين خبرةً تتراكم مع توالي القضايا والنقاشات، لكن الحال ليست كذلك؛ فالتراشق السطحي والاصطفافات المقرّرة مسبقاً على أسسٍ عصبية، تظل على حالها ولا تتغير. أم هل نتجت عن انتهازية حركات وقوى وشخصيات سياسية مؤثرة، ركّزت على تحقيق مصالحها أو بلوغ المناصب العليا، حتى لو تم ذلك من خلال إذكاء النعرات، ولم تهتم بإيجاد مناخات استقطابٍ سياسيٍّ على أساس البرامج والأفكار، وهو أمر تشارك فيه من يسمّون أنفسهم "الإسلاميين" و"الوطنيين" و"اليساريين"؟ ربما، لكن المفترض أن انكشاف تلك الانتهازية مع تعدّد التجارب، يدفع الناس إلى قراءة الأحداث من زاوية حاجاتهم المعيشية واليومية والمستقبلية، لا من باب الانتصار لهذا أو لتلك، وفق أسس عصبية.
ربما أن هذا السلوك يصدر عن نوعٍ من "الأصولية"، تنبع من معايير محددة مسبقاً، لا بل انطباعات محددة مسبقاً، فلا ترى ما وراء غاياتها، ولا تقبل الاستماع إلى الآخر بموضوعية. ولذلك، فهي لا تحسن دراسة الحدث السياسي وتقييمه لذاته. لكنها ليست أصولية ذات أهداف نبيلة، قد يختلف المرء مع أفكارها، وإنما هي أصولية لا نُبل فيها، إذ لا فكر فيها.
هذا الانفضاض عن السياسة، نحو "السياسة المتوَهّمة"، هو ما يترك الحياة السياسية فضاءً لتحقيق المصالح الشخصية، في المال والجاه والنفوذ وتوريث المناصب، لدى منخرطين كثيرين في المؤسسات السياسية وحاصلين على المناصب السياسية، فلا تكون مجالاً لحل مشكلاتنا المزمنة، وأهمها المشكلة الحضارية. هكذا، تفترق "الشعوب" على أساس أصول أصحاب المناصب ودياناتهم، ثم لا ينالها غير ضنك العيش، فالعمل السياسي الحقيقي محرّم عليها، والمشاركة السياسية (بالرأي) تُحرّمها هي على نفسها.. فهل يحق لها بعد ذلك أن تحتج على انعدام تكافؤ الفرص، وعلى المحسوبية، وعلى الفساد؟ بالطبع لا.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.