في وداع بيريز

01 أكتوبر 2016
+ الخط -
مع رحيل شمعون بيريز، تُطوى صفحة أساسية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. صفحة لا علاقة لها بالمجازر الميدانية التي كان هذا المسؤول الإسرائيلي ضالعاً فيها، وليس موضوع المقال تعدادها؛ فللمجازر التي برع بيريز فيها، منذ بداية التسعينيات، أبعاد أقسى، ولا نزال نعيش تداعياتها، على الساحة الفلسطينية خصوصاً، والعربية عموماً.
منذ بداية التسعينيات، وتحديداً بعد مؤتمر مدريد الشهير، فتحت الأبواب الجانبية للمفاوضات العربية الإسرائيلية، والتي كان بيريز سيدها، بعدما كان يقدم نفسه "حمامة" تسعى إلى إقامة "سلام الشجعان" على أرضية شرق أوسط جديد تكون الدولة العبرية محوره. الظروف السياسية في المنطقة العربية، ولا سيما بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، وما رافقها من مواقف فلسطينية وأردنية خصوصاً، جعلت طريق الرجل سهلاً نسبباً، فكان القطاف الأول في أوسلو وتبعه وادي عربة، ولاحقاً كانت مؤتمرات واي ريفر وواي بلانتيشين وكامب ديفيد الثانية، وغيرها من مؤتمراتٍ سارت على نهج الرئيس الإسرائيلي السابق، حتى عندما لم يكن جزءاً من الحكم.
وحتى في ظل حكم أعتى عتاة اليمين الإسرائيلي، ولا سيما في عهد أرييل شارون، كانت الإدارات الأميركية تعمل جاهدةً على تطعيم التشكيلات الحكومية الإسرائيلية بشخصياتٍ تقدمها على أنها "حمائمية"، للإبقاء على فرص التواصل الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي، وكان بيريز، في ذلك الحين، في مقدمتها، خصوصاً بعد شراكته مع أرييل شارون في حزب كديما. لم يكن الأمر لينطلي على المسؤولين الفلسطينيين والعرب، غير أنهم كانوا يتلقونه برحابة صدر لرغبة في الإبقاء على هذا المسار مفتوحاً، حتى لو كان بلا أفق.
على هذا الأساس، لم يكن مستغرباً على الإطلاق مسارعة مسؤولين عرب، وفي مقدمتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على التعزية بـ "شريك السلام"، فالمسألة ليست مجرد وفاة شخص، بل قد تكون نهاية نهج بالنسبة لهؤلاء، وإغلاق الباب نهائياً على ما كانت تسمى "العملية السياسية". ولهذا أيضاً كان أبو مازن مصرّاً على المشاركة شخصياً، وعلى رأس وفد من "فتح" ومنظمة التحرير، في الجنازة، حتى عندما لم تدعه الحكومة الإسرائيلية. فهو سارع إلى تقديم طلب لذلك. طلب أثار ردود فعل كثيرة غاضبة على الرئيس الفلسطيني، على الرغم من أن الرجل متصالح جداً مع نفسه، ومن كان يتوقع منه غير ما فعله واهم.
لا يشارك أبو مازن  فقط في تشييع "صديقه"، بل في توديع حقبةٍ كان هو جزءاً أساسياً منها، وهو يراها تندثر أمام عينيه. فالخيار الاستراتيجي الذي لم يتوقف عن الكلام عنه، ما عاد له أي صدىً في الجانب الإسرائيلي بوجود طاقم يميني إسرائيلي بلا أي تطعيم. ويحمل مشهد بكاء عباس الذي تناقله الناشطون الفلسطينيون على مواقع التواصل هذه المعاني، فالرجل يبدو في الصور كأنه فقد أحد أبويه، لكنه في الحقيقة فقدَ حجر الزاوية الذي بنى عليه تاريخه السياسي وأوصله، في النهاية، برعاية دولية غير مسبوقة، إلى سدة الرئاسة الفلسطينية. بقي أبو مازن وفياً، طوال الفترة الماضية، لاستراتيجيته وشركائه، لكنه فجأة بدأ يجد نفسه وحيداً في الفضاء السياسي الذي يدافع عنه.
لكن أبو مازن لم يفقد الأمل بعد، وهو بإصراره على المشاركة في التشييع، خصوصاً في ظل حشد من الزعماء، الدوليين عموماً والأميركيين خصوصاً، إنما يسعى إلى محاولة وصل ما انقطع، وتأكيد أنه لا يزال موجوداً وجاهزاً بخياره الاستراتيجي. ربما هذا ما همسه لبنيامين نتنياهو في أثناء المصافحة الحارّة بينهما، والتي يأمل بأن تشكل إنعاشاً لجثة العملية السياسية الراقدة إلى جانب "صديقه" بيريز.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".